في أحد أيام عام 2017، كنتُ شاهداً على قرارٍ غريب.
بعد أن اجتزتُ بوابة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ــ تلك المؤسسة التي كان التوظيف فيها حلماً صعب المنال ما لم تكن تتمتع بخلفيةٍ أمنيةٍ متينة ــ وضعتُ هويتي في مكتب الزيارة، وسط أجواءٍ تُشعرك أنك داخل فرع أمني أكثر من كونك في مبنى تلفزيون رسمي.
لم تمضِ دقائق حتى انقلب الإرسال رأساً على عقب؛ صورُ الرئيس المخلوع معلقة بكثافة في الغرف والممرات، والهمسات تتردد في الأرجاء:
“لقد أُعفي وزير الإعلام!”
كان القرار يقضي بإعفاء عماد سارة من منصبه كمديرٍ للهيئة. لكن الرجل لم يرحل. اكتفى بإجراء اتصال هاتفي واحد، كان كافياً لأن يصدر الوزير محمد رامز ترجمان بعد نصف ساعة بياناً رسمياً يؤكد فيه طي القرار رقم (678) القاضي بإنهاء تكليف عماد سارة من تسيير شؤون الهيئة العامة شخصياً.
مع من كان الاتصال؟
كانت لونا الشبل.
لم تكن لونا الشبل مجرد وجه إعلامي في زمن الحرب، بل واحدةً من أكثر الشخصيات نفوذاً داخل الدائرة الضيقة المحيطة ببشار الأسد.
امرأة بدأت مسيرتها أمام الكاميرا، وانتهت خلف ستار من الغموض، في حادث لا يزال يثير أسئلة أكثر مما يقدم إجابات.
البداية
وُلدت لونا الشبل في السويداء عام 1975، ودرست اللغة الفرنسية ثم الإعلام، قبل أن تبدأ مسيرتها المهنية في التلفزيون السوري.
لمعت موهبتها سريعاً، وانتقلت إلى قناة الجزيرة في الدوحة، حيث أصبحت من أبرز مقدّمي البرامج السياسية وأكثرهم حضوراً.
لكن عودتها إلى دمشق عام 2010 كانت نقطة التحوّل الحاسمة في مسيرتها؛ فبدلاً من العودة إلى مقعد المذيعة، التحقت بفريق القصر الرئاسي، لتتدرّج بسرعة داخل دوائر صناعة القرار.
حين اندلعت الحرب السورية، وجدت السلطة في لونا الشبل ما كانت تبحث عنه: وجهاً أنثوياً قادراً على الدفاع عن النظام بلغة واثقة وعصرية.
تولّت إدارة المكتب الإعلامي والسياسي في رئاسة الجمهورية، ثم أصبحت مستشارة خاصة للأسد في نهاية عام 2020.
فهمت لونا اللعبة باكراً؛ ففي النظام السوري، النفوذ لا يُمنح، بل يُنتزع بالولاء وبالقدرة على البقاء داخل الدائرة الموثوقة. كانت تُتقن خطاب السلطة، وتعرف كيف تلمع صورتها من دون أن تقترب من الخط الأحمر. ولذلك صعدت إلى موقعٍ لا يسمح عادة لغير رجال الأمن بالوصول إليه.
كانت تتحدث باسم النظام لا بصوتها، وربما لهذا السبب أصبحت إحدى أكثر الشخصيات حساسية في المشهد السوري؛ لأنها جمعت بين الكاميرا والقرار، بين الصورة والسياسة.
صوت النظام
منذ عام 2011، أدارت لونا الشبل آلة الإعلام الرسمي التي واجهت العالم برواية واحدة: أن الدولة تخوض حرباً ضد الإرهاب. كانت مسؤولة عن صياغة اللغة التي شُيّد عليها خطاب النظام ــ لغة التماسك والوطنية والاستقرار ــ في مواجهة خطاب الثورة والفوضى.
على الصعيد الداخلي، أعادت هيكلة الرسائل الإعلامية لتبدو أكثر احترافاً وانضباطاً؛ وعلى الصعيد الخارجي، أشرفت على التواصل مع القنوات الأجنبية، وأدارت بعناية الصورة التي أراد القصر أن تُنقَل عن الأسد.
لكن هذا الدور منحها سمعة مزدوجة: فبالنسبة إلى الموالين، كانت رمزاً للولاء والكفاءة؛ وبالنسبة إلى المعارضين، الوجه الأنيق لآلة القمع. وفي الحالتين، كانت حاضرة كمن يختصر رواية السلطة بكاملها.
النفوذ
تعتبر لونا الشبل جزءاً من شبكة النفوذ داخل القصر الرئاسي، تلك التي تتقاطع فيها السياسة بالأمن وبالتمثيل الإقليمي.
ورغم أنها لم تُعلن انتماءها لأيّ جناح بعينه، فإن صعودها السريع أزعج دوائر أقدم وأكثر رسوخاً في المنظومة، خصوصاً تلك المرتبطة بالأجهزة الأمنية وبالعلاقات الإيرانية داخل النظام.
في السنوات الأخيرة قبل وفاتها، بدأ نفوذها يتراجع بهدوءٍ محسوب. فقد استُبعدت هي وزوجها من اللجنة المركزية لحزب البعث، وتناقص ظهورها الإعلامي بشكلٍ لافت.
كان واضحاً أن الموقع الذي شغلته داخل القصر لم يعد آمناً كما كان، وأن موازين القوة الداخلية بدأت تميل ضدها.
ورغم ندرة المعلومات الموثقة عن حياتها الشخصية، فقد تداولت مصادر إعلامية وشخصيات قريبة من القصر روايات تتحدث عن توترات شديدة داخل الدائرة الضيقة للرئاسة.
تشير بعض تلك الروايات إلى أن علاقة شخصية مع الأسد ــ لم يؤكد وجودها رسمياً ــ كانت سبباً في خلافات مكتومة بينها وبين شخصيات نسائية أخرى في الوسط الإعلامي. وتقول المصادر ذاتها إن نفوذها داخل القصر كان يثير رهبة حقيقية لدى العاملين هناك؛ إذ كانت تتصرف بثقة مطلقة، وتُصدر الأوامر حتى لكبار المسؤولين، في حضور الأسد نفسه، من دون أن يجرؤ أحد على معارضتها.
سواء كانت تلك الشهادات دقيقة أم لا، فإنها ترسم ملامح امرأة جمعت بين السلطة والجرأة، واستفزّت نظاماً لا يحتمل المنافسة في دوائره الضيقة.
ولهذا، حين بدأت صورتها تتراجع، بدا سقوطها أقرب إلى نتيجة حتمية منه إلى مجرد صدفة أو حادث عرضي.
حادث أم تصفية؟
لكن الغرور أعمى بصيرة لونا الشبل، فنسيت ــ أو لعلها تناست ــ طبيعة النظام الذي خدمته: نظام لا يحتمل الرموز حين تنتهي أدوارهم، ويبتلع أبناءه حين يشعر بأنهم تجاوزوا حدود الدور المرسوم لهم.
لم تقتل ــ إن كانت قد قتلت فعلاً ــ لأنها خرجت عن الخط، بل لأنها أصبحت جزءاً منه إلى حد لم يعد يُحتمل.
في النهاية، لم تنجُ لا بمهارتها ولا بولائها؛ كأن السلطة التي صنعت منها امرأة قوية، هي ذاتها التي ابتلعتها حين لم تعد بحاجة إلى وجه يبررها أمام العالم.
بعد أسابيع من تضييق متزايد، تم توقيف زوجها عمار ساعاتي ــ الذي يملك مع لونا منتجعاً في مدينة سوتشي الروسية ــ بينما كان يستعد للسفر إلى روسيا، على أن تلحق به زوجته.
لكن إجراءات سفره أُوقفت في اللحظة الأخيرة، وتبلغ أنه ممنوع من مغادرة البلاد.
في الوقت ذاته، أودع شقيقها العميد ملهم الشبل السجن في إدارة أمن الدولة، بتهمة “التخابر مع جهات معادية”.
بحسب مصادر من داخل القصر تحدّثت إلى المدن، بدأت لونا تستشعر الخطر، وبدأت تلوح علناً بامتلاكها وثائق حساسة يمكن أن تحدث صدمة داخل الدائرة الرئاسية.
وتضيف المصادر أن حسام لوقا، رئيس إدارة المخابرات العامة ــ الموصوف داخل الأجهزة بـ”عنكبوت المخابرات السورية” ــ تولى شخصياً التحقيق معها، في خطوة فسرت حينها بأنها إشارة إلى فقدان الثقة بها داخل القصر.
وتقول الروايات إن الخلاف بينها وبين بشار الأسد بلغ مرحلة الصدام المباشر قبل أيام من مغادرتها القصر للمرة الأخيرة.
نهاية متوقعة
في يوليو/تموز 2024، كانت النهاية المفاجئة. حادث سير على طريق يعفور قرب دمشق، بدا في ظاهره عابراً، لكنه تحوّل سريعاً إلى قصة غامضة حبست تفاصيلها بين جدران القصر.
الرواية الرسمية اكتفت بالقول إن سيارة لونا الشبل انحرفت عن الطريق، لكن الصمت الذي تلا الحادث كان أثقل من الخبر نفسه.
فالمستشارة الرئاسية التي اعتادت الأضواء، دُفنت على عجل، من دون مراسم عامة، ولا بيانٍ رسمي، ولا حتى نعي يليق بمن كانت حتى الأمس القريب وجه النظام الإعلامي الأول.
تسريبات من داخل دمشق تحدّثت عن اصطدام متعمّد، وعن تحقيقات أغلقت بسرعة لافتة. بعض من عايشوا الحدث وصفوه بأنه تصفية داخلية لجناح فقد الحماية، فيما رآه آخرون رسالة صارمة من داخل النظام: لا أحد أكبر من اللعبة.
مصادر خاصة تحدثت إلى “المدن” كشفت تفصيلاً لم يُعلن سابقاً:
بعد الحادث مباشرة، تعرضت لونا الشبل لضربة قوية من الخلف بأسفل بندقية، ما أدى إلى إصابتها بكسور قاتلة في الجمجمة ووفاتها على الفور.
ويؤكد طبيب شرعي تحدث إلى “المدن” ــ فضّل عدم ذكر اسمه ــ أن الفحص الأولي أظهر ضربة عنيفة على مؤخرة العنق والرأس، قائلاً: “لم تكن وفاة ناتجة عن ارتطام عرضي، بل عن ضربة قُصد بها إسكات صوت لم يعد ضرورياً”.
النهاية
هكذا خبا صوت خدم آلة النظام لسنوات، قبل أن يتحول إلى عبء في زمن المساومات الإقليمية الجديدة. فالشبل كانت إحدى واجهات النفوذ الإعلامي داخل القصر الرئاسي، في شبكة تتقاطع فيها الأجهزة الأمنية، وخصوصاً إدارة التوجيه المعنوي والفرع الرابع، مع دوائر النفوذ الإيراني المتصاعدة.
وبرغم غياب أدلة مباشرة على ارتباطها بطهران، فإن قربها من شخصيات محسوبة على الخط الإيراني داخل الرئاسة جعلها ــ بحسب مراقبين ــ محل ريبة لدى موسكو التي لم تخفِ انزعاجها من تمدد النفوذ الإيراني في دمشق.
في تلك اللحظة، بدا أن التوازن الذي حافظ عليه النظام بين رعاته الإقليميين لم يعد ممكناً، وأن تصفية لونا الشبل قد تكون ــ إن تأكدت رواياتها ــ إحدى إشارات هذا التحول الخفي في موازين القوة داخل سوريا ما بعد الحرب.
وفي النهاية، يظل السؤال الأعمق معلقاً: هل يمكن لأي وجه مدني داخل سلطة عسكرية أن يستمر من دون أن يصبح ضحية التوازن ذاته؟
ربما كانت لونا الشبل قد أجابت عن هذا السؤال بدمها، لتغدو رمزاً صامتاً لصراع لم ينتهِ بعد، بين الصورة والسلطة، بين الولاء والنجاة.
مناقب الراحلة
تُعد لونا الشبل حالة استثنائية في بنية النظام السوري، حيث يهيمن الطابع الأمني والعسكري على مراكز القرار. فقد صعدت من موقع مدني بحت إلى قلب السلطة السياسية، ليس عبر المؤسسة العسكرية، بل من بوابة الإعلام ــ المجال الذي حوّلته من أداة ترويج إلى وسيلة نفوذ حقيقي داخل القصر الرئاسي.
نجاحها في بلوغ هذا الموقع غير المألوف ارتبط بعدة عوامل متشابكة:
ــ براعتها في الخطاب والسيطرة على الصورة: استطاعت أن تصوغ لغة إعلامية جديدة تعبر عن خطاب النظام وتدافع عنه بلغةٍ أكثر انسياباً وحداثة، مقارنة بالنمط الخشبي للإعلام الرسمي.
كانت تفهم الصورة كما يفهمها المخرج لا المذيع، وتعرف كيف تُخرج السلطة في أفضل زواياها أمام الكاميرا.
ــ قدرتها على التواصل الدولي: مكنتها خلفيتها اللغوية والثقافية من بناء شبكة علاقات مع وسائل الإعلام الأجنبية، وتقديم رواية النظام بلسان أقرب إلى المفهوم الغربي عن “الاستقرار” و”السيادة”.
بهذا، أدّت دوراً مزدوجاً: الناطقة الرسمية داخلياً، والمترجمة السياسية خارجياً.
ــ الثقة الشخصية من بشار الأسد: لم تكن مجرد موظفة في مكتبه، بل وجهاً مرافِقاً له في الزيارات واللقاءات الدولية، كما حدث خلال رحلته إلى الصين عام 2023.
هذا الحضور العلني إلى جانب الرئيس أشار إلى قربها الفعلي من الدائرة الضيقة، وإلى ما كانت تتمتع به من صلاحياتٍ غير مألوفة لمدنيين في منظومة كهذه.
ــ تحالفها مع جناح الرئاسة المدني: مثّلت صوت “الوجه المدني” للنظام في مقابل هيمنة الأذرع الأمنية والعسكرية، وسعت إلى إبراز صورة دولةٍ “تديرها مؤسسات” لا “أجهزة”. لكن هذا التوازن ظل هشاً، إذ لم يكن في وسعها أن تصمد طويلاً في منظومة لا ترى في الولاء المدني ضمانة كافية للبقاء.
في النهاية، كانت لونا الشبل نتاجاً لمرحلة أرادت فيها السلطة تحديث صورتها دون أن تغير جوهرها. غير أن النظام الذي سمح لها بالاقتراب من مركز الضوء، هو ذاته الذي أطفأ الضوء عنها حين أصبحت أكثر حضوراً مما يجب.
تعرضت لضربة قوية من الخلف بأسفل بندقية: الموت الغامض للونا الشبل .






