الدولة و “فلول” الأسد وشخصية “نافخ الكير”

تشكّل قضية “فلول” نظام بشار الأسد مسألة جوهريّة وحسّاسة تُرخي بثقلها على الموقف اللبناني العام، مع صيرورة البلاد ملاذًا آمنًا لعدد هائل من قيادات وضبّاط النظام المخلوع، وتمتع عوائل “الصفوة” منهم بحرية ورفاهية، تستندان إلى الحماية السياسية، والثروات المنهوبة من الشعب السوري.

هذه القضيّة لا تؤثر بالسلب على إعادة صياغة العلاقات اللبنانية – السورية فحسب، إنما يمتدّ تأثيرها إلى القوى العربية والإقليمية والدولية الداعمة لدمشق. وهي القوى نفسها التي أسهمت في حصول تحوّل كبير في هيكل الحكم اللبناني، ضمن سياستها الرامية إلى دعم مشروع نهوض الدولة واستعادتها قرارها الاستراتيجيّ. التعامل الرسمي “البارد” مع مسألة “الفلول” يعزز الانطباع السلبي المتصاعد عن لبنان، على وقع التحايل اللغويّ والسياسي في مسألتين متشابكتين: حصرية السلاح والمفاوضات مع إسرائيل.

وإذا كان الجانب السوري يواظب على المطالبة بملاحقة واسترداد قيادات نظام الأسد، والتي تحتلّ صدارة اهتمامات الجانب السوري خلال الاجتماعات المشتركة، إلى جانب قضية المسجونين، فإن التحقيق الذي أجرته قناة “CNN” حول الصحافي الأميركي أوستن تايس، وتمكّنها من الوصول إلى مكان إقامة أحد أبرز مساعدي بشار الأسد في قلب بيروت، اللواء بسام الحسن، المدرج على لوائح العقوبات الأميركية والأوروبية لمسؤوليته عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، يزيدان حراجة الموقف اللبناني.

وفي هذا الإطار، شكّلت مشاركة الرئيس السوري أحمد الشرع في النسخة التاسعة من “مبادرة مستقبل الاستثمار” في الرياض، رسالة سعودية ذات دلالات مكثفة، إن كان من ناحية الحفاوة التي لقيها، أم من ناحية رعاية ولي عهد المملكة ورئيس وزرائها الأمير محمد بن سلمان اجتماعًا بين الشرع ورئيسة كوسوفو لتكريس دور سوريا كدولة إقليمية، أم بعدم دعوة لبنان إلى الفعاليّة. يضاف إليها الضغوط الهائلة التي تمارسها الإدارة الأميركية على حلفائها الأكراد، وتخفيض دعمها لـ “قسد”، ضمن استراتيجية ترمي إلى تقوية موقف دمشق.

لا بدّ من إيلاء الأهمية المطلوبة للعوامل السالفة الذكر من قبل صناع القرار في لبنان، إلى جانب الرسالة التي وجّهها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في مقابلته مع “الإخبارية السورية” حول “عدم استيعاب بعض الأطراف سقوط نظام الأسد”، ودعوتهم إلى “إعادة الحسابات وقراءة التاريخ”، من أجل بناء مقاربة جديدة للعلاقات مع سوريا تتسم بالدولتية والموثوقية.

إذ يصعب على المسؤولين اللبنانيين المضيّ في الإنكار وتقديم الذرائع، مثل نفي وجود “الفلول”، أو عدم امتلاك معلومات عن كيفية دخولهم وعناوين إقامتهم، في ظلّ وجود قاعدة بيانات عن العديد منهم لدى الأجهزة السورية، بعضها نشر على منصّات التواصل، يمكن رفدها بما لدى الأجهزة الأميركية والأوروبية والخليجية ضمن إطار قنوات التنسيق المشتركة في ظلّ الاحتضان الهائل للحكم السوري الجديد.

ومع ذلك، يبدو أن الشخصية العامة للدولة لا تزال أسيرة التأثير السلبي للوصايتين “البعثية” و “الملالية”، وتحويلها من صانع قرار إلى متلقٍ ومتفاعل مع ديناميات الأحداث التي تمسّها، حيث يغلب على الموقف اللبناني إزاء المسائل الملحّة، من “الفلول” إلى “السلاح” و “المفاوضات”، طابع فقدان روح المبادرة، وانتظار الإشارات الخارجية، والتحرّك البطيء على إيقاع الضغوط.

فكما لكلّ فرد شخصية ذات سمات معيّنة، كذلك الحال بالنسبة للمجتمعات والأمم والدول. ناهيكم بتأثر عقل هذه الشخصية بقناعة سائدة لدى “حزب اللّه” وإيران حول حتميّة سقوط أحمد الشرع ونظامه، وعودة سوريا إلى حضن “الممانعة”، والتي تثبت حجم انفصال كلّ منهما عن الواقع ومتغيّراته الصلبة.

ثمّة حديث شريف ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري يقول “مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير. فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير، أي النار، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة”.

إذ ذاك يمسي تعامل الدولة مع سوريا أكثر دفعًا نحو شخصية “نافخ الكير”، الذي يملأ فضاء العلاقة أذية وشرورًا، بالنسبة لدمشق ورعاتها الإقليميين والدوليين على السواء، مقابل الإصرار على إهدار الفرصة تلو الفرصة لترجيح شخصية “حامل المسك” الذي يحمل قيمًا أكثر إشراقًا ومسؤولية تسهم في احتواء أخطاء التاريخ والجغرافيا لإعادة تصويب العلاقة وتنميتها.

الدولة و “فلول” الأسد وشخصية “نافخ الكير” .

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...