حصاد عام على العهد والحكومة: بين خطاب القسم وامتحان الدولة

في الشق السيادي الذي شكّل العنوان الأبرز في خطاب القسم، سجل خلال العام المنصرم تطور لافت تمثل في إطلاق خطة أمنية وعسكرية لحصر السلاح جنوب نهر الليطاني، بالتنسيق مع الجيش اللبناني وبدعم دولي.

بعد نحو عام على انتخاب العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية، وتشكيل حكومة نواف سلام ونيلها ثقة مجلس النواب على أساس بيان وزاري طموح، بات من الضروري الانتقال من مناخ التوقعات والبدايات إلى منطق التقييم الهادئ. فالعهد الذي انطلق في لحظة استثنائية، بعد فراغ رئاسي طويل وانهيار مالي ومؤسساتي غير مسبوق، قدّم نفسه منذ اليوم الأول بوصفه محاولة لإعادة بناء الدولة، واضعاً خطاب القسم في موقع النص المرجعي، فيما شكل البيان الوزاري الإطار التنفيذي المفترض لهذا التوجه. غير أن مرور عام كامل كشف بوضوح حجم التحديات التي واجهت هذا المسار، والفجوة بين سقف الوعود وإمكانات التنفيذ.

في خطاب القسم، رسم رئيس الجمهورية ملامح مشروع سياسي واضح، قوامه استعادة الدولة قرارها السيادي، وحصر السلاح بيدها، وبسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية، إلى جانب استقلال القضاء، مكافحة الفساد، وإطلاق مسار تعاف اقتصادي يعيد الثقة الداخلية والخارجية. وقد اكتسب هذا الخطاب بعداً خاصاً لكونه صدر عن رئيس آت من المؤسسة العسكرية وبرضا أكثرية اللبنانيين عبر ممثليهم، في وقت كانت فيه الدولة تعاني تراجعاً في هيبتها وقدرتها على فرض سلطتها. لاحقاً، جاء البيان الوزاري لحكومة نواف سلام ليكرّس هذه العناوين، مع إضافة التزامات تتعلق بالإصلاحات المالية والإدارية، وبإعادة وصل لبنان بمحيطه العربي والمجتمع الدولي.

الخطة الأمنية لحصر السلاح بيد الدولة

في الشق السيادي الذي شكّل العنوان الأبرز في خطاب القسم، سجل خلال العام المنصرم تطور لافت تمثل في إطلاق خطة أمنية وعسكرية لحصر السلاح جنوب نهر الليطاني، بالتنسيق مع الجيش اللبناني وبدعم دولي. وقد أدت هذه الخطة إلى تعزيز انتشار الجيش في عدد من النقاط الحساسة، وإقفال معابر غير شرعية، ومصادرة كميات من السلاح، في إطار السعي إلى تطبيق القرار 1701. إلا أن هذا التقدم، على أهميته، بقي محصوراً جغرافياً، ولم يتحول إلى مقاربة شاملة لحصرية السلاح على كامل الأراضي اللبنانية، وهنا الكلام يشمل السلاح الفلسطيني،  الذي وإن بدأ العمل  لجمعه، إلا أن الخطوات التي نفذت تبقى رمزية ولا تلمس حد تجريد السلاح ما جعل الإنجاز جزئياً قياساً بحجم التعهدات الواردة في خطاب القسم والبيان الوزاري.

وفي ما يتصل بالقرار 1701، التزمت الدولة اللبنانية سياسياً وديبلوماسياً بتطبيقه، وأعادت تأكيد مسؤوليتها عن الجنوب ورفضها الخروق الإسرائيلية في المحافل الدولية. غير أن الواقع الميداني ظل معقداً، إذ لم يترجم هذا الالتزام سيادة مكتملة أو استقراراً دائماً، بل اقتصر على خفض نسبي للتوتر في نطاق جغرافي محدد، في ظل استمرار عوامل داخلية وإقليمية تتجاوز قدرة الدولة اللبنانية على ضبطها منفردة.

القضاء: دون مستوى التعهدات

أما في ملف القضاء، الذي احتل حيّزاً مركزياً في خطاب القسم، فقد بقي التنفيذ دون مستوى التعهدات. فعلى رغم المواقف السياسية المتكررة التي شددت على ضرورة استقلال السلطة القضائية وتحصينها من التدخلات، أقر قانون استقلالية القضاء بصيغته النهائية، لكنه أيضاً بقي أقل من التوقعات على رغم التقدم الحاصل، وخصوصاً على مستوى التشكيلات القضائية وغيرها. كما لم تسجَّل اختراقات حاسمة في الملفات القضائية الكبرى كانفجار مرفأ بيروت وغيره ذات الطابع المالي أو السياسي. وبذلك، بقي هذا الملف في دائرة الوعود المؤجلة، وسط استمرار فقدان الثقة الشعبية بالقضاء كسلطة قادرة على المحاسبة.

الاقتصاد: خطوات تمهيدية

اقتصادياً، واجه العهد والحكومة الاختبار الأصعب. فقد وعد البيان الوزاري بإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وحماية أموال المودعين، واستعادة الثقة بالاقتصاد الوطني. وخلال العام، سُجلت خطوات تمهيدية، أبرزها تعديل قواعد السرية المصرفية، وإحالة مشاريع قوانين تتعلق بإعادة هيكلة المصارف وتنظيم استعادة الودائع إلى مجلس النواب، إلى جانب إعادة فتح قنوات التفاوض مع الجهات الدولية، وبدأت الحكومة في الأيام الاأخيرة من السنة دراسة قانون الفجوة المالية، غير أن هذه الخطوات لم تترجم حتى الآن نتائج ملموسة، إذ لم يشهد اللبنانيون تحسناً فعلياً في أوضاعهم المعيشية، ولم تستعد أي نسبة من الودائع، فيما بقيت الأزمة الاجتماعية على حالها تقريباً.

تفعيل العلاقات الديبلوماسية

في المقابل، يُسجَّل تحسن نسبي في موقع لبنان الخارجي. فقد نجحت الرئاسة والحكومة في إعادة تفعيل العلاقات الديبلوماسية مع الدول العربية والمجتمع الدولي، واعتمدتا خطاباًَ رسمياً أقل تصادمية وأكثر انسجاماً مع منطق الدولة والشرعية الدولية. هذا التحسن انعكس دعماً سياسياً واضحاً وعودة اهتمام خارجي بالملف اللبناني، لكنه لم يتحول بعد إلى دعم مالي واسع أو استثمارات كبرى، في ظل ربط المجتمع الدولي أي مساعدة بتنفيذ إصلاحات داخلية أعمق، أهمها ملف السلاح والإصلاحات الاقتصادية.

على مستوى الإدارة العامة، لم يشهد العام المنصرم تحولاً بنيوياً. فبعض التعيينات أُنجزت، إلا أن الشغور لا يزال قائماً في مؤسسات أساسية، ولم يطلق مسار إصلاح إداري شامل يعيد الاعتبار لدور الدولة ويحد من الترهل والزبائنية. وبذلك، بقي الإصلاح الإداري أحد العناوين المؤجلة، على رغم الإقرار الرسمي بأهميته في أي عملية نهوض

مسارات مفتوحة تصطدم بعمق الأزمة

في الخلاصة، يعكس حصاد العام الأول من العهد والحكومة صورة مركّبة. فقد نجحت السلطة الجديدة في إعادة إنتاج خطاب الدولة، وفتحت مسارات سياسية وأمنية وديبلوماسية لم تكن متاحة في السابق، لكنها اصطدمت في الوقت نفسه بعمق الأزمة البنيوية وبحدود التوازنات الداخلية والإقليمية. وبين الوعد والإنجاز، يبدو العام الأول أقرب إلى مرحلة تثبيت الاتجاهات وإدارة الأخطار، لا إلى مرحلة الحسم وبناء التحولات الكبرى. ويبقى الرهان في المرحلة المقبلة على قدرة هذا المسار التمهيدي على التحول إلى مشروع دولة فعلي، يتجاوز إدارة الممكن إلى فرض منطق الدولة ومؤسساتها.

حصاد عام على العهد والحكومة: بين خطاب القسم وامتحان الدولة .

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...