بعيدًا عن الصورة البهيّة للبنان واللبنانيين التي تقدّمت الشاشات في استقبال الحبر الأعظم، وبعيدًا عن الطرقات “المُزفّتة” حديثًا ليمرّ عليها الموكب البابوي، وبعيدًا عن الورود والزغاريد، في هذه الزيارة أكثر من رسالة، بل هو تحذير بدا واضحًا في كلام الحبر الأعظم، مذكّرًا اللبنانيين بأهمية “الوحدة” و”السلام العادل في المنطقة” وأهمية دور “المسيحيين في العيش ضمن التنوع” وأهمية دور “الآخرين” في المحافظة على دور هذه البلاد التي لا تزال تنازع منذ نشأتها بحثًا عن صيغة نهائية لعيش كل المكوّنات فيها. في المسيحية، إن “الرجاء” هو فعل عظيم. وهو الذي لا يزال حاضرًا في نفوس المؤمنين بصمت، بعيدًا عن السلطة الأبوية أكانت متمثّلة بالكنيسة أو بالسلطة السياسية.
بغض النظر عن ماهيّة أبعاد هذه الزيارة، كنسية كانت أو اجتماعية أو سياسية، يأمل اللبنانيون أن يجد لبنان رجاءً وسلامًا في المستقبل القريب وسط زحمة رسائل التصعيد الآتية من كل مكان.
زيارة بيضاء بين الأمل والتهديد
تزامنًا مع استقبال اللبنانيين للبابا لاوون الرابع عشر، أوصل المبعوث الأميركي توم باراك رسالة إلى رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، يقول فيها إن التصعيد مقبل حتمًا في لبنان على “الحزب”، محذّرًا من أن أي تدخل من أي فصيل في العراق سيؤدي إلى ضرب إسرائيل لهذا الفصيل.
قبل هذه الرسالة، كان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو يحذّر منطقة الشرق الأوسط بأسرها بأنها مقبلة على تغيير. هذه الرسالة التصعيدية وصلت إلى لبنان عبر عدة قنوات، والمطلوب واحد: سحب السلاح في جنوب الليطاني قبل نهاية العام، والدخول في تفاوض مباشر مع إسرائيل. إلا أن الجديد حاليًا، هو كمّ الرسائل التي تصل إلى لبنان متحدثة عن تصعيد موجع حتى قبل نهاية العام وبعد انتهاء زيارة الحبر الأعظم.
انطلاقًا من واقع هذه البلاد التي تنازع منذ نشأتها، تأتي هذه الزيارة الناجحة في شكلها، لتكون محطة التقاء بين مكوّنات لبنان. تضيف مصادر مطّلعة على هذه الزيارة، أن هذا الالتقاء إن كان شكليًا فينتهي في ساعته، لأن المطلوب أن تكون هذه الزيارة محطة مفصلية يدرك فيها اللبنانيون أهمية التقائهم في مقاربة مستقبلهم. لأن المستقبل لهم جميعًا سواء أكان جيدًا أو سيئًا، لا سيما وأن لا غطاء على أحد في كل الاستحقاقات المقبلة على البلد.
إعادة تقييم: في السياسة
لعلّ أبرز أسباب هذه الزيارة، تعود إلى زيارة كانت مفترضة على أيام سلف البابا لاوون في الفاتيكان، وتأجّلت الزيارة بسبب الشغور الرئاسي يومها. فاختار البابا لاوون أن تكون زيارته الأولى إلى تركيا ثم لبنان، وفيها مناسبة لكي يترجم الفاتيكان عن عمله الدائم من أجل السلام في المنطقة.
في ذاكرة اللبنانيين وتحديدًا المسيحيين، أكثر ما يؤثر بهم هو العام ١٩٩٧ يوم زار البابا يوحنا بولس الثاني لبنان في زيارة وُصفت تاريخيّة بامتياز. بحر من المؤمنين استقبلوه وعلى يمينه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير. يومها كانت الزيارة تأسيسًا لعودة المسيحيين إلى لعب دورهم في لبنان. وهكذا حصل. إلا أن ما بين الأمس واليوم تغيّر الكثير. عاد المسيحيون بزعمائهم إلى الحكم، من دون أن يؤدي ذلك إلى تحسّن أوضاعهم لا في السياسة ولا في الدولة بالمفهوم الذي يريده الفاتيكان. إحباط الحرب الأهلية عاد وظهر في إحباط من نوع آخر: إحباط المسيحيين من أزمات الحكم المتلاحقة، بالإضافة إلى أزمة السلاح والولاءات الإقليمية التي لا تشبه ذاكرتهم ولا تطلعاتهم ولا وجدانهم.
للفاتيكان دبلوماسية صامتة، غالبًا ما عملت في كواليسها من أجل لبنان في حربه وسلمه. اليوم في كواليس الفاتيكان عمل من أجل السلام. فجاءت زيارة الحبر الأعظم تحت أكثر من عنوان تقود كلها إلى ما سمّاه السلام العادل. فهل ستؤسّس هذه الزيارة لذهاب لبنان إلى السلام في المنطقة كما أسّست زيارة البابا يوحنا عام ٩٧ لعودة المسيحيين إلى الدولة؟
بعيدًا عن التكهنات والتحليلات، إن أهل السياسة الدولية والداخلية يعلمون أن الفاتيكان يعمل بالسياسة بقدر عمله في الدين، وهو انعكاس مباشر للسياسات العالمية التي تعبّر عنها الولايات المتحدة الأميركية في أغلب الأحوال. ولهذا، فإن زيارة البابا على أهميتها الروحية، إن أردنا وضعها في سياق دولي، فإنها ستكون حتمًا في سياق العمل من أجل السلام في منطقة الشرق الأوسط وإنهاء الصراع القائم منذ نشوء الكيان الإسرائيلي، وذلك بغض النظر عن نجاح هذا المسار أو فشله.
إعادة تقييم كنسيّة
بعيدًا عن السياسة، فإن واحدة من الإشكاليات المطروحة بين الفاتيكان ولبنان هي العلاقة مع الكنيسة الكاثوليكية بكل تفرّعاتها. للفاتيكان ملاحظات كثيرة على أداء أهل الكنيسة في لبنان، ومطالبة منها للرهبانيات المختلفة بعيش معنى المسيحية بحق، بالفقر والمساعدة والعمل من أجل أبناء الرعية، مؤمنين كانوا أم غير مؤمنين. في المقابل، تصل إلى الفاتيكان تقارير عن سوء حال المسيحيين في لبنان، وهجرتهم المستمرة، وفقرهم المتزايد، وحاجتهم الكبرى إلى الأب الروحي في الدعم في حياتهم اليومية، في العمل والمدرسة والجامعة والطبابة. وهذا كان واحدًا من أهداف الزيارة البابوية إلى لبنان، ولقاء الحبر الأعظم مع رجال الدين المسيحيين في الخلوة معهم.
أما اللقاء الأكبر، فكان تحت عنوان الوحدة والسلام. وبعيدًا عن أبيات الشعر والنثر والأدب في توصيف هاتين الكلمتين، فإن معناهما سياسي بامتياز: في الوحدة ضد التقسيم، وفي السلام ضد الحرب.
اليوم الثلاثاء يغادر البابا لاوون تاركًا لبنان لأهله وللمجتمع الدولي الذي لا يزال موفدوه حاضرون بكثافة. فإما تنطلق ورشة العمل تحت عنوان الوحدة والسلام، وإما فإن لبنان مقبل على أيام أكثر إيلامًا.
زيارة بيضاء في زمن أسود .





