كما حرص على أن تكون أولى زياراته للبنان، وهي فعلاً كذلك وبقرار منه بعدما كانت زيارة تركيا مقررة مسبقاً مع البابا فرنسيس، رسالة واضحة أراد بها البابا لاوون الرابع عشر تأكيد أهمية البلد ومكانته بالنسبة إلى الفاتيكان، هكذا جاء برنامج زيارته، بحيث لم يقتصر على الجوانب السياسية والكنسية والروحية، بل أراد تخصيص محطات أساسية لتوجيه رسائل لعل أهمها في مرفأ بيروت، موقع الانفجار الذي حصد أكثر من مئتي ضحية.
من مختلف المحطات التي توزعت عليها الزيارة الكثيفة، والرسائل المركزة التي حملتها كل محطة، في الأمل والرجاء والحوار والزهد والمصالحة كما في السياسة، أراد الحبر الأعظم عبر إدراجه موقع انفجار مرفأ بيروت في جدول محطاته، أن يوجه رسالة قد تكون صامتة في شكلها، لكنها صارخة في مضامينها ورمزيتها، وتعكس مدى اهتمام الفاتيكان بهذه الجريمة العالقة منذ نصف عقد من دون أن تظهر الحقيقة وتتحقق العدالة.
في مراقبة لجدول برنامج الزيارة، تبدو بصمات الفاتيكان واضحة في الخيارات والرسائل المطلوب إيصالها، وهي لا تقتصر على الأبعاد الروحانية التي تربط أبناء الطائفة المسيحية برأس الكنيسة الكاثوليكية، أو بفتح حوار الأديان من خلال اللقاء الذي عقده في ساحة الشهداء، مع كل ما تحمله هذه الساحة من دلالات. وقد جاء الإعداد لزيارة المرفأ المقررة اليوم والصلاة في موقع الانفجار ليحمل رسالة مدوية حيال أهمية هذا الملف العالق. وما يعكس أهمية الزيارة بالنسبة إلى الفاتيكان، أنه تم الإعداد لها وإقرارها منذ تشرين الأول الماضي، أي قبل شهر من موعدها، إذ أصدر الفاتيكان بياناً كشف فيه عن زيارة البابا للمرفأ، مشيراً إلى أن “الصلاة في موقع المرفأ ستكون لحظة تأمل وصلاة من أجل السلام والشفاء”.
لم يرغب البابا في أن تكون زيارته لموقع الانفجار صاخبة أو احتفالية، بل أرادها صامتة، تاركاً للصلاة أن تشكل التعبير الأصدق لمشاعر الحزن حيال المأساة التي حلت بمنطقة مسيحية، وقع فيها أكثر من ٢٠٠ ضحية غالبيتهم من المسيحيين، من دون أن يعمد أي مسؤول في الدولة إلى اتخاذ القرار السياسي الذي يطلق يد القضاء للوصول إلى الحقيقة من أجل تحقيق العدالة، ليس فقط لأهل الضحايا، وإنما أيضاً للعاصمة التي اهتزت جدرانها وشوارعها وأحياؤها وأبنيتها في أكبر جريمة هزت العصر، ولم تحظ بعدالتها، التي يفترض تحقيقها أن تستعيد الدولة سيادتها وقدرتها على ضبط أمنها واستقرارها.
وإذا كان البابا سيكتفي بالصلاة والصمت أمام هول تلك الجريمة واحتراماً لأرواح شهدائها، فإن هذه الزيارة قد لا تكون الحل لذوي الضحايا المطالبين منذ خمسة أعوام بالعدالة لشهدائهم، ولكنها تروي شيئاً من غليلهم لجهة شعورهم بأنهم أبناء الكنيسة وليسوا متروكين، كما هي حالهم مع دولتهم، وأن الفاتيكان الذي يمثل رأس الكنيسة الكاثوليكية لا يتغاضى عن هذا الملف حتى لو لم يكن هناك إعلان، وذلك في إطار الديبلوماسية الصامتة التي يمارسها الفاتيكان في سياسته الخارجية.
وعليه، لا يستبعد مراقبون أن تكون محطة البابا في المرفأ بمثابة صفارة انطلاق لإعادة إطلاق مسار التحقيقات في الجريمة، وسط انطباع أن خواتيم هذا الملف لم تعد بعيدة جداً.
صلاة البابا الصامتة في المرفأ اليوم رسالة مدوّية من أجل العدالة .






