الرسالة لم ولن تصل إلى مبتغاها، وخصوصًا محاولة إظهار الحزب وكأنّه المدافع عن حقوق الإنسان والحامي الأول للاستقرار، في حين أنَّ الصورة مغايرة لا بل منقلبة على مشهد التمسّك بالسلاح غير الشرعي، الذي قضى على الاستقرار في لبنان وأعاده إلى الوراء فجعل منه بلدًا من العالم العاشر، تُسيطر عليه دُوَيْلَةُ السلاح والفوضى وغياب القانون والغرق في صراعات الآخرين، وتتمسّك باستراتيجية عسكرية خارجة عن نطاق الدولة والجيش.
حَمَلَ شعار “طوبى لفاعلي السلام” خلال زيارته لبنان، هَادِفًا إلى تطبيق هذا الشعار في وطن يعيش الظلام الحالك، إِنَّهُ رجل السلام قداسة البابا لاوون الرابع عشر، الذي استهلّ زيارته بدعوة اللبنانيين إلى التحلّي بشَجَاعَةِ البقاء في بلدهم الغارق في الأزمات، وتحقيق المصالحة من أجل مستقبل مشترك، وتثبيت التعايش بين الطوائف كبلد نموذجي في الشرق، فأعطى اللبنانيين دفعًا روحيًّا ومعنويًا لأنَّ حضور الحبر الأعظم أطلق دعوةً جديدةً للتمسّك بالرجاء، خصوصًا إلى الشبيبة التي شكت له همومها ومشاكلها وتَوْقها إلى السلام في وطنها الحزين والمشتّت.
هِيَ بالتأكيد زيارة تاريخية إلى وطن الشراكة المسيحية – الإسلامية، تسعى إلى ترسيخ أسس المحبة في هذه المنطقة، التي تعيش هواجس القلق والمخاوف اليومية وخصوصًا لبنان، الذي يَمُرُّ بأدقّ وأصعب مرحلة في تاريخه، لذا نأمل تجديد هذه الشراكة وتثبيت الهوية في وطن يعيش ضمنه 18 طائفة، جعلت منه بلدًا مميّزًا لطالما حمل شعار “لبنان وطن الرسالة” كما سَمَّاهُ قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني.
هذه الدعوات التي أطلقها البابا سبقتها رسالة من حزب الله عشية وصوله إلى لبنان، سَلَّمَهَا وفدٌ من المجلس السياسي في الحزب إلى السفارة البابوية، أراد من خلالها تبييض صفحته أمام رئيس الكنيسة الكاثوليكية، من خلال شعارات التسامح والمصالحة والتعايش مع كل الأديان، مع إشارة لافتة إلى أنَّ الخلافات مع المسيحيين في لبنان هي سياسية وليست عقائدية.
بعدها تطرَّق الحزب في رسالته إلى مأساة غزّة، التي تعيش كل أنواع المآسي منذ سنتَيْن، بسبب الاحتلال الذي يسلب حقوق الشعب الفلسطيني، وسط غياب العدالة من قبل المجتمع الدولي الذي يقف صامتًا أمام هوْل ما يجري، ثم دخل متأخّرًا على الخط اللبناني ليشرح معاناة اللبنانيين جرّاء الاحتلال الإسرائيلي لجزء من أراضيهم، مُتحدثًا عن التسلّط مع تناسي مَن أوصل لبنان واللبنانيين إلى هذا الدرك، جرّاء شعاراته التي ما زال يتغنى بها على الرّغم من سقوطها.
إلى ذلك، بدا حزب الله عبر رسالته هذه وكأنّه في عالم آخر، إذ تحدث عن تمسّكه بالعيش المشترك والحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلي والديمقراطية، والوقوف إلى جانب الجيش والشعب لمواجهة أي احتلال، وبرفض أي تدخّل خارجي يحاول فرض وصايته على لبنان ومصادرة قراره وصلاحيات سلطاته، فَقَلَبَ المشهد رأسًا على عقب محاولًا غضّ النظر عن ماضيه المُتجذّر والمُحمّل بالسقطات والدعسات الناقصة والأيام “المجيدة”، التي رسمت تاريخ 7 أيار الذي لا يمكن أَنْ يُنْسَى من ذاكرة اللبنانيين، حين احتكم “مجاهدو” الحزب إلى الشارع وتهديد الشريك بالسلاح بعد اتخاذ الدولة قرارًا لم يعجبهم؟ ومع ذلك لفت الحزب في رسالته إِلَى أَنَّهُ يعوّل على مواقف البابا في رفض الظلم الذي يتعرّض له لبنان على أيدي الغُزاة، متناسيًا خطورة غُزاة الداخل أكثر من الخارج.
بعد هذا الانقلاب المكتوب، بدت الرسالة مفعمةً بالمغالطات وعدم صفاء الذهن لدى كاتبها، فكيف يتحدّث عن الديمقراطية والتعايش وهو مَن خيّب الآمال عبر هَذَيْن العنوانَيْن، وكيف يتبجّحُ برفضه للتدخل الخارجي وهو الذي يُنفّذ الأجندات والأوامر الإيرانية؟، لا بل يتباهى بذلك والكلّ يتذكر ما قاله الأمين العام الراحل السيد حسن نصرالله حين افتخر بعلاقته بإيران وبأنّه جندي في ولاية الفقيه، ويتلقّى السلاح وتوابعه والرواتب والأموال وكل ما يلزم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فأدخل بذلك العامل الخارجي المُؤثر عسكريًا وأمنيًا وسياسيًا إلى الساحة اللبنانية.
انطلاقًا من كلّ ما ورد فالرسالة لم ولن تصل إلى مبتغاها، وخصوصًا محاولة إظهار حزب الله وكأنّه المدافع عن حقوق الإنسان والحامي الأول للاستقرار، في حين أنَّ الصورة مغايرة لا بل منقلبة على مشهد التمسّك بالسلاح غير الشرعي، الذي قضى على الاستقرار في لبنان وأعاده إلى الوراء فجعل منه بلدًا من العالم العاشر، تُسيطر عليه دُوَيْلَةُ السلاح والفوضى وغياب القانون والغرق في صراعات الآخرين، وتتمسّك باستراتيجية عسكرية خارجة عن نطاق الدولة والجيش.
لذا ستبقى عبارة “لبنان الرسالة” الحقيقة الساطعة الباحثة عن السلام، وعن استعادة دور لبنان في تطبيق أُسُسِ هذه العبارة، أمّا السطور التي لا تنقل الحقائق فلن تُغيّر شيئًا.
في سياقٍ متصلٍ، لا بدّ من الإشارة إلى المشهد الذي رأيناه بعد ظهر الأحد، مع وصول البابا إلى المطار حيث كانت “كشافة المهدي” مع عدد من المواطنين في استقباله على طريق المطار، كي تعطي دفعًا وزخمًا لبنود الرسالة المذكورة الهادفة إلى تبييض صفحة الحزب أمام الحبر الأعظم وأنظار العالم، لكن ليس بهذه الطريقة تُقلب الصفحة السوداء، بل بالتنفيذ والتقيّد بقرارات الدولة الشرعية.
في الختام، لا بد أَنْ نَذْكُرَ ما كتبه النائب السابق فارس سعيد على حسابه: “كشافة المهدي تشارك في استقبال البابا شعبيًا عند مروره في الضاحية الجنوبيّة… إنّها أولى عجائب البابا لاوون”.
رسالة “الحزب” إلى قداسة البابا محاولة لتبييض صفحته… فهل نجح في ذلك؟! .







