كيف سيتعامل الداخل والخارج مع خطاب رئيس الجمهوريّة جوزف عون في عيد الاستقلال؟ وهل حصل تنسيق فعليّ بين الرئيسين عون ونوّاف سلام في شأن “مبادرة الاستقلال”؟
في الشكل والمضمون، أتت كلمة رئيس الجمهوريّة استثنائيّة ومباشرة، وكاد فعلاً أن يُسمّي الأشياء بأسمائها، وتحديداً في الداخل حيث صوّب باتّجاه “الحزب” و”القوّات اللبنانيّة”، ومن يدور في فلكهما، بقوله: “حيث تطالنا السهام من الطرفين، ونلاقي عدم الفهم والتفهّم والتفاهم، من البعضين، بمعزل عن النِسب والأسباب”.
حمل اختيار عون الجنوب، في سابقة رئاسيّة، لإطلاق “خطاب الاستقلال” الأوّل للعهد، يرافقه قائد الجيش العماد رودلف هيكل عقب تأجيل زيارته لواشنطن وتوسّع حملات التشكّك في أداء الجيش والرئاسة الأولى، رسائل عدّة للداخل والخارج، بلغة مصارحة غير معتادة، ليس فقط لناحية البنود الواضحة جدّاً في شأن مبادرته العسكريّة والتفاوضيّة من أجل الوضع جنوباً، بل مساواة “الحزب” و”القوّات” حين تحدّث عن “وجود انطباعَين متناقضَين يبتعدان عن الحقيقة ومنافيَين لجوهر الاستقلال”.
ارتدادات كلمة الرّئيس
لن تمرّ كلمة رئيس الجمهوريّة من دون ارتدادات داخليّة ودوليّة يجدر رصدها منذ لحظة استكمال إسرائيل لإجرامها as usual في اليوم التالي لمبادرة الرئيس عون بالتمسّك بالاغتيالات وقضم الأراضي، ومن خلال مواقف الحزبَين الأساسيَّين المعنيَّين برسائل بعبدا: “الحزب” و”القوّات”.
على المستوى الداخليّ، كرّر عون مرّتين في خطابه تشريح حالة الإنكار لدى “الحزب” و”القوّات اللبنانيّة”، ومن يدور في فلكهما.
الحزب، وفق الترجمة السياسيّة لخطاب عون، “يعيش حالة مكابرة أو إنكار، وكأنّ شيئاً لم يتغيّر في المنطقة والعالم، ويمكنه الاستمرار بما كان قائماً من تشوّهات في مفهوم الدولة وسيادتها على أرضها، منذ 40 عاماً”.
في المقابل، يذكر عون انطباعاً مناقضاً لدى بعض آخر من اللبنانيّين، قاصداً “القوّات” بشكل أساس، بقوله إنّ “الزلزال الذي حصل قضى على جماعة كاملة في لبنان، وكأنّ طائفة لبنانيّة برمّتها قد زالت أو اختفت. وهذه مكابرة أخرى، وحالةُ إنكار مقابلة، لا تقلّ عن الأولى خطأً وخطراً”.
قبل ساعات قليلة من خطاب عون، كان حزب القوّات اللبنانيّة، على لسان رئيسه سمير جعجع ووزير الخارجية يوسف رجّي، يُطالب الحكومة بأن “تأخذ موقفاً في مجلس الوزراء من تصريحات مسؤولي “الحزب” في شأن رفض نزع السلاح ووصفه بالخطيئة”، فيما كان بعض نوّاب “القوّات” يؤكّدون على المنابر أنّ “الجيش يدفع ثمن القرار السياسيّ والموقف الملتبس للحكومة”، مع دعوة السلطة السياسيّة إلى القيام “بمراجعة في الغرف المغلقة، حيث يجب عليها أن تجرؤ وتسرّع الخطى أكثر، وأن يخرج الجيش اللبناني من العمل السرّيّ في كيفية التعاطي مع المواقع العسكريّة ومخازن الأسلحة التابعة لـ”الحزب”، ويضعنا في صورة ما يحصل كلّ أسبوعين”.
ضربة عسكريّة وشيكة
الشروط “القوّاتيّة” على الحكومة والجيش ورئاسة الجمهوريّة ترافقت مع إبراز معراب، من رئيس حزب القوّات سمير جعجع ونزولاً، خطر “حصول ضربة عسكريّة قاسية من جانب إسرائيل، والأميركيّون قالوا لنا بوضوح اعملوا اللازم، أو دبّروا أمركم مع إسرائيل”.
عقب كلام الرئيس عون سارع رئيس جهاز الإعلام والتواصل في “القوّات” شارل جبّور إلى تأكيد أنّ “الأهمّ من نزع سلاح “الحزب” أن تسمّي الدولة الأمور بأسمائها وأنّ المشكلة تتمثّل في الجناح العسكريّ لـ”الحزب”، والضربات الإسرائيليّة سببها هذا السلاح”.
وفق المعلومات، لم تتلقَّ “القوّات” خطاب عون بإيجابيّة، خصوصاً بعدما ساوى، برأي أوساطها، “بين طرف معتدٍ وطرف سياديّ، بينما حالة الإنكار الأوضح تُترجم بالسلطة التي تبدو عاجزة، بعكس أقوالها، عن الوقوف بوجه الحزب”.
من جهة الضاحية، تتركّز الأنظار على موقف “الحزب” من مبادرة رئيس الجمهوريّة التي بدت استكمالاً لموقفه الداعي إلى التفاوض منذ أسابيع، من دون أيّ ردّ إسرائيليّ أو أميركيّ عليها. فيما تفيد المعلومات بأنّ الرئيس نبيه برّي “كان في جوّ المبادرة وموافقاً عليها”، كما صدرت إشارات اطمئنان من جانب قريبين من الحزب بأنّ “مبادرة الرئيس عون راعت أولوية انسحاب الجيش الاسرائيلي، لذلك يُبنى عليها”.
تزامن إطلاق المبادرة مع تسلّم السفير الأميركيّ الجديد ميشال عيسى مهامّه في عوكر، وقرب إحياء الذكرى الأولى لتوقيع اتّفاق وقف الأعمال العدائيّة في 26 تشرين الثاني 2024، ودخوله حيّز التنفيذ في 27 منه، مع نتيجة كارثيّة وصّفها بيان “اليونيفيل” بتسجيل أكثر من عشرة آلاف خرق جوّيّ وبرّيّ إسرائيليّ داخل الأراضي اللبنانيّة منذ سريان وقف إطلاق النار، وأيضاً قبل أيّام من وصول وزير الخارجيّة المصري بدر عبدالعاطي إلى بيروت في مهمّة “صيانة” للمبادرة المصريّة التي لم يُلحظ لها أثر منذ مغادرة رئيس الاستخبارات المصريّ اللواء حسن رشاد لبنان، بعد سلسلة لقاءات أجراها مع مسؤولين سياسيّين وأمنيّين.
غياب التّنسيق الرّئاسيّ؟
تضمّنت المبادرة “الخماسيّة” التي وضعها رئيس الجمهوريّة “برسم كلّ العالم”، خمسة بنود أهمّها “تأكيد جهوزيّة الجيش اللبنانيّ لتسلّم النقاط المحتلّة على حدودنا الجنوبيّة، واستعداد الدولة اللبنانيّة لأن تتقدّم من اللجنة الخماسيّة فوراً بجدول زمنيّ واضح ومحدّد للتسلّم، واستعداد القوى المسلّحة اللبنانيّة لتسلّم النقاط فور وقف الخروقات والاعتداءات كافّة، وانسحاب الجيش الإسرائيليّ من كلّ النقاط”.
لكن في هذا الإطار برز تعارض واضح مع السياق الكلاميّ الذي أبرزه رئيس الحكومة نوّاف سلام خلال مقابلته مع وكالة “بلومبرغ” الأميركيّة حين أشار إلى “استعداد لبنان للتفاوض بشأن الحدود البرّيّة والمناطق التي لا تزال تحتفظ بها، حيث تواصل البقاء في خمسة مواقع حدوديّة”.
تعكس هذه المشهديّة عدم وجود تنسيق بين الرئاستين. فكلام عون واضح في أنّ “الدولة اللبنانيّة جاهزة للتفاوض، برعاية أمميّة أو أميركيّة أو دوليّة مشتركة، على أيّ اتّفاق يرسي صيغة لوقف نهائيّ للاعتداءات عبر الحدود”، لكن يسبق ذلك انسحاب إسرائيل وتسلُّم الجيش اللبنانيّ المواقع المحتلّة. في المقابل، يطرح سلام التفاوض “على النقاط التي لا تزال إسرائيل تحتفظ بها، والتي هي عديمة القيمة الأمنيّة والعسكريّة”، كما قال.
ربّما القطبة الأهمّ في خطاب عون هي تأكيده أنّ رعاية هذا المسار، “من قبل الدول الصديقة والشقيقة، يكون عبر تحديد مواعيد واضحة ومؤكّدة لآليّة دوليّة لدعم الجيش اللبنانيّ، وللمساعدة في إعادة إعمار ما هدّمته الحرب، بما يضمن ويسرّع تحقيق الهدف الوطنيّ النهائيّ والثابت، وهو حصر كلّ سلاح خارج الدولة، وعلى كامل أراضيها”.
هذا يُشكّل نداءً رئاسيّاً بأن المُهمّة ستتعثّر من دون توفير الدعم اللازم للمؤسّسة العسكريّة، وهي نقطة وردت أيضاً في “أمر اليوم” الذي أصدره قائد الجيش العماد رودولف هيكل الذي أشار إلى أنّ “جهود الجيش تستلزم مواكبة حثيثة من مؤسّسات الدولة، وتوفير الإمكانات، وتحسين أوضاع العسكريّين”.
من سيتلقّف مبادرة عون “الخماسيّة”؟ .



