تتّجه الأنظار إلى الانتخابات النيابية المقرّرة في ربيع عام 2026 بوصفها واحدة من أكثر المعارك السياسية حساسية منذ إتفاق الطائف، ليس فقط بسبب الكباش القائم حول قانون الانتخاب وإقتراع المغتربين، بل لأنّ أحد عناوينها الأبرز سيكون محاولة كسر حصرية التمثيل الشيعي في البرلمان التي يحتكرها ثنائي حركة أمل وحزب الله منذ عقود. فالتوازن الذي فرضه الثنائي داخل المجلس النيابي، وأمّن له سيطرة مطلقة على المقاعد الشيعية، قد يكون على موعد مع إختبار جدّي إذا قررت القوات اللبنانية خوض معركة مباشرة لخرق هذه الكتلة الصلبة، مدفوعة بما تمتلكه من تنظيم حزبي متماسك وقوة ناخبة منتشرة في عدد من الدوائر. وفي حال مضت القوات في هذا الخيار، فإن دوائر مثل بعبدا، كسروان جبيل، وبعلبك الهرمل قد تتحوّل إلى ساحات مواجهة غير تقليدية، تتجاوز البعد الطائفي إلى صراع أوسع على هوية التمثيل السياسي وموازين القوى في لبنان.
ثلاث دوائر قابلة للاختراق
تشير الحسابات الانتخابية إلى أنّ هناك ثلاث دوائر فقط يمكن أن تشهد خرقاً فعلياً في صفوف الثنائي، إذا ما قررت القوات اللبنانية إستثمار قوتها التنظيمية وحجمها التصويتي.
بعبدا
في دائرة بعبدا، تبرز معادلة إنتخابية دقيقة قد تتيح للقوات اللبنانية تحقيق خرق نوعي في التمثيل الشيعي من دون أن تخسر موقعها التقليدي على المقعد الماروني، ومن دون الحاجة إلى حليف مباشر لمواجهة الثنائي، وإن كانت تحافظ على تحالفها مع الحزب التقدمي الاشتراكي. فالثنائي أمل حزب الله يمتلك قاعدة ناخبة تُقدّر بنحو 20 ألف صوت، أي ما يعادل 10 آلاف لكل حزب تقريباً. في المقابل، تمتلك القوات ما يكفي من الأصوات المسيحية والاعتراضية لتمنح المرشح الشيعي الذي تدعمه ما يقارب 15 ألف صوت، وهو رقم كفيل بترجيح كفته على مرشح الثنائي إذا تشتّتت أصوات الأخير أو تراجعت نسبة الاقتراع الشيعي.
ويقوم هذا السيناريو على حساب إنتخابي بسيط: فبفضل الحاصل الانتخابي وآلية توزيع الأصوات التفضيلية، يمكن للقوات أن تؤمّن فوز مرشحها الشيعي المدعوم منها بـنحو 15 ألف صوت، مع الحفاظ في الوقت نفسه على مقعدها الماروني الذي يحتاج فقط إلى حوالى 800 أو ألف صوت تفضيلي لترجيح كفته داخل اللائحة نفسها. وتزداد فرص هذا الاختراق إذا عجزت لوائح المجتمع المدني أو المستقلين عن بلوغ الحاصل الانتخابي، ما يفتح المجال أمام القوات لتوسيع هامشها والفوز بمقعدين في دائرة تُعدّ تقليدياً من ساحات نفوذ الثنائي.
كسروان – جبيل
في دائرة كسروان جبيل، يقوم السيناريو المطروح على معادلة إنتخابية، تسعى من خلالها القوات اللبنانية إلى تحقيق خرق سياسي رمزي أكثر منه عددي، عبر إنتزاع المقعد الشيعي من الثنائي أمل – حزب الله. فالثنائي يمتلك في هذه الدائرة نحو 12 ألف صوت شيعي ثابت، في حين يمكن للقوات أن تجيّر وحدها ما يقارب 15 ألف صوت لصالح مرشح شيعي تختاره ضمن لائحتها.
وبهذا التوزيع، يصبح مرشح القوات الشيعي متقدماً على مرشح الثنائي، ما يتيح له الفوز بالمقعد، ولو على حساب خسارة القوات لمقعد ماروني واحد داخل اللائحة نفسها. أي أنّ القوات تكون قد ضحّت بمقعد ماروني مقابل خرق سياسي نوعي، يوجّه ضربة رمزية للثنائي داخل منطقة ذات طابع مسيحي صرف، ويكرّس القوات كقوة قادرة على توظيف وزنها الانتخابي لتغيير موازين القوى حتى في الدوائر التي لم يكن للشيعة فيها حضور مرجح سابقاً.
بعلبك – الهرمل
في دائرة بعلبك – الهرمل، التي تُعدّ من أبرز معاقل الثنائي أمل وحزب الله، تمتلك القوات اللبنانية قاعدة ناخبة لا يُستهان بها تصل إلى نحو 17 ألف صوت. وإذا نجحت في التحالف مع أحد أبناء العشائر المعارض للثنائي الذي يتمتع بنفوذ محلي وقاعدة من حوالى ألفي صوت إضافي، يمكن أن يرتفع رصيدها إلى نحو 19 ألف صوت، وهو رقم كفيل بترجيح كفة مرشح شيعي مدعوم من القوات على مرشح الثنائي.
لكن وفق الحسابات الانتخابية، فإن هذا السيناريو لا يسمح للقوات بالاحتفاظ بالمقعد الماروني في الوقت نفسه، لأنّ توجيه معظم أصواتها نحو المرشح الشيعي يعني خسارة التوازن داخل اللائحة، إذ إنّ المقاعد تُوزّع بحسب الحاصل الانتخابي والأصوات التفضيلية داخل الطوائف. بمعنى آخر، تستطيع القوات أن تحقق خرقاً سياسياً كبيراً في المعقل الشيعي الأهم، لكنها ستفعل ذلك على حساب تمثيلها الماروني في الدائرة.
أما الثنائي، فإن أي تحالف يعقده في الدوائر الثلاث لا يُتوقع أن يكون ذا فاعلية، لأنّ التيار الوطني الحر على وجه الخصوص، حليف حزب الله السابق، يسعى أساساً إلى حماية مقاعده المارونية في كسروان وجبيل وبعبدا، ولا يمكنه أن يمنح مرشحي الحزب أكثر من بضع مئات من الأصوات إلا إذا تقاطع والثنائي على خارطة تحالفات تتخطى الدوائر الثلاث سعياً إلى استعادة ما خسر من مقاعد.
دوائر مغلقة أمام الخرق
في المقابل، تُعتبر باقي الدوائر عصيّة على الاختراق.
• في زحلة يمتلك حزب الله نحو 17 ألف صوت لا يمكن لأي طرف تجاوزه.
• في بيروت الثانية يملك الثنائي 32 ألف صوت (منها 16 ألفاً لحزب الله) ولا توجد أي جهة قادرة على تجيير هذا الحجم من الأصوات.
• أما في البقاع الغربي والجنوب الثالثة، فلا توجد قوة قادرة على نقل عشرة آلاف صوت أو أكثر لكسر الثنائي.
بناءً على ذلك، فإن المواجهة الانتخابية الفعلية مع الثنائي “الشيعي” تبقى محصورة بثلاث دوائر فقط: بعبدا، كسروان جبيل، وبعلبك الهرمل.
الدلالات السياسية للمعركة
لا تنحصر المواجهة بين القوات اللبنانية والثنائي أمل حزب الله المحتملة بالحسابات الانتخابية فحسب، بل تتخذ بعداً سياسياً واضحاً. فمحاولة القوات خرق لوائح الثنائي تُعدّ خطوة إستراتيجية تهدف إلى محاصرة نفوذ حزب الله وحركة أمل داخل المجلس النيابي، وتقليص حجم كتلتهما التي تمنحهما ثقلاً حاسماً في إنتخاب رئيس المجلس وتشكيل الحكومات المقبلة.
من هنا، يطرح السؤال الجوهري: هل تتحرك القوات اللبنانية بدافع داخلي محض، أم أن هذه المواجهة تأتي بإيعاز خارجي يسعى إلى تفكيك كتلة الثنائي تمهيداً لفرض معادلات جديدة في المجلس النيابي وربما لإيصال رئيس جديد لمجلس النواب غير الرئيس نبيه بري؟
المعطيات السياسية لا تستبعد وجود دعم أو تشجيع خارجي لمثل هذا المسار، خصوصاً في ظل المناخ الإقليمي الذي يشجع على إعادة موازنة القوى في الداخل اللبناني وإضعاف نفوذ حزب الله. إلا أنّ ترجمة هذه النوايا إلى نتائج ملموسة في صناديق الاقتراع تحتاج إلى قدرة تنظيمية وتمويلية ضخمة، وإلى حلفاء محليين موثوق فيهم في البيئات المختلطة والمناطق الحساسة.
معركة ربيع العام 2026 قد تتحول إلى مواجهة سياسية كبرى بين القوات اللبنانية والثنائي أمل حزب الله في ثلاث دوائر أساسية، تُختبر فيها قدرة الطرفين على تعبئة الأصوات وإدارة التحالفات.
لكن ما هو مؤكد أنّ أي خرق تحققه القوات في هذه الدوائر سيشكّل ضربة رمزية ومعنوية كبيرة للثنائي، وقد يفتح الباب أمام إعادة رسم موازين القوى في البرلمان المقبل، فيما يبقى السؤال مفتوحاً:
هل هي معركة إنتخابية بحتة، أم مقدّمة لتحوّل سياسي أوسع يُراد منه إعادة توزيع مراكز القرار في الدولة اللبنانية؟
3 دوائر قد تتيح للقوات اللبنانية “خروقاً استراتيجية” شيعية .




