هل سحب نعيم قاسم تفويض “الأخ الأكبر” من نبيه بري؟

“حزب الله” بحسب كثيرين أراد أن يوجه “الكتاب المفتوح” بالدرجة الأولى إلى الرئيس جوزاف عون الذي كان أول من أعلن أن خيار الحرب لم يعد مجدياً وأن التفاوض يحصل مع العدو وليس مع الصديق، وربما أراد الحزب أن تصيب شظايا كتابه الرئيس بري الذي أبدى عدم ممانعة لإجراء مفاوضات غير مباشرة عبر آلية ما يُعرف بـ”الميكانيزم”.

في خطوة لافتة ونادرة، وجه “حزب الله” قبل أيام قليلة كتاباً مفتوحاً إلى الرؤساء الثلاثة، رئيس الجمهورية جوزاف عون، رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء نواف سلام. وحدد في نص مكتوب لا يحتمل أي تأويل موقفه من قرار الحكومة بحصر السلاح الذي وصفه بـ “الخطيئة”، ومن إعلان وقف الأعمال العدائية المحصور لجهة السلاح بجنوب الليطاني فقط كما قال، ومن قرار التفاوض مع إسرائيل رافضاً أي “انزلاق إلى أفخاخٍ ومكتسبات للعدو”.

وبعد أيام على الكتاب وفي السياق نفسه أعلن الأمين العام للحزب نعيم قاسم أن “لا استبدال لاتفاق وقف إطلاق النار ولا إبراء لذمة الاحتلال باتفاق جديد ويجب تنفيذ الاتفاق وبعدها كل السبل مفتوحة لنقاش داخلي حول قوة لبنان وسيادته ولا علاقة للخارج بهذا النقاش”.

وغمز من قناة المسؤولين مؤكداً أنه لن يناقش “خدام” إسرائيل الذين لا يدافعون عن مواطني بلدهم، وجزم بأن الحزب “لن يتخلى عن السلاح الذي يمكنه من الدفاع عن أرضه وأهله، ولن يركع وسيبقى واقفاً، وأضاف “جربتمونا في السابق وإذا أردتم التجربة، فلن ننسحب من الميدان”.

خطوط الحزب الحمراء لم تستثنِ الحليف

في موقف قاسم وقبله الكتاب الموجه إلى الرؤساء وضع الحزب خطوطاً حمراء واضحة أمام الرئاسات الثلاث حول ما هو مقبول وما هو مرفوض في أي مفاوضات مستقبلية.

لكن المخاطبة المباشرة للمؤسسات الدستورية الثلاث بالتساوي، بمن فيهم الحليف بري، طرحت أيضاً تساؤلات حول الدور المستقبلي لرئيس المجلس النيابي الذي اعتاد أن يكون القناة الرئيسية للتواصل والتفاوض باسم “حزب الله”، وهو الذي وفق مصادر مقربة من عين التينة فوجئ ببيان الحزب واطلع عليه في الإعلام، بخاصة أن كل التقارير والتسريبات أكدت خلال الأسبوعين الماضيين أن بري نفسه كان أعطى موافقة مبدئية على التفاوض غير المباشر مع إسرائيل، وهو ما صرح به مؤكداً أنهم لا يعارضون التفاوض غير المباشر مع تل أبيب، فيما أتى كلام قاسم والكتاب المفتوح رافضاً بشكل غير مباشر أي شكل من أشكال التفاوض مع الدولة الإسرائيلية، ما عده البعض تناقضاً بين قاسم وبري.

فهل يعني ذلك أن “الأخ الأكبر” كما كان يصفه الأمين العام نعيم قاسم لم يعد المفاوض باسم الحزب؟ وهل سيستمر بري في لعب دور الوسيط التقليدي، أم أن هناك تحولاً في هذا الدور؟

رسالة لعون تصيب بري

“حزب الله” بحسب كثيرين أراد أن يكون كتابه موجهاً بالدرجة الأولى إلى الرئيس عون الذي كان أول من أعلن أن خيار الحرب لم يعد مجدياً وأن التفاوض يحصل مع العدو وليس مع الصديق، وربما أراد الحزب أن تصيب شظايا كتابه الرئيس بري الذي أبدى عدم ممانعة لإجراء مفاوضات غير مباشرة عبر آلية ما يُعرف بـ”الميكانيزم”، واقترح توسيع اللجنة لتضم مدنيين.

الأكيد أن مخاطبة بري بهذه الطريقة تحمل دلالات أعمق، لعل أبرزها القول إن الحزب يراقب في المرحلة الحالية عن كثب أي تحرك قد يمس بمعادلة التوازن الداخلي. فالحزب وإن لم يسحب الثقة من بري كمفاوض، يبدو أنه يريد إيصال رسالة واضحة مفادها بأن القرارات المصيرية المتعلقة بالسلاح والحزب لم تعد في يد وسيطٍ أو حليفٍ أو صديق، إنما هي قرار يتخذه بنفسه، وبتوقيت إيراني ربطاً بالتوازنات الإقليمية الكبرى.

أوصل الرسالة ثم وضحّ

مصادر مقربة من عين التينة أكدت أن موقف “حزب الله” لم يكن منسقاً مع رئيس مجلس النواب، وأن الكتاب وصل إليه عبر وسائل الإعلام.

وتؤكد أن بري لم يعلق أمام زواره عما سمعه، والتزامه الصمت يعني عادة عدم الموافقة على ما تم طرحه.

لكن ذلك لا يعني، تتابع المصادر، أن التواصل مقطوع مع الحزب، بل لا يزال قائماً، خصوصاً أن “حزب الله” ألحق كتابه برسالة توضيحية لبري، قال فيها إن الكتاب الذي تم نشره يعبر عن رؤية الحزب، في الوقت الذي تستمر فيه إسرائيل بالحرب، وعدم الاكتراث بما يُطرح في لبنان عن التفاوض.

ولا تستبعد المصادر نفسها أن تكون رسالة إيرانية وصلت إلى الحزب، تطلب منه رفع السقف، وعدم تقديم تسهيلات من دون الحصول على ضمانات، بخاصة أن الحزب أبلغ المصريين أيضاً، أنه يرفض العودة إلى نقطة الصفر، لترتيب اتفاقياتٍ جديدة، بوجود اتفاقية العام الماضي التي تتجاهلها إسرائيل.

هل تتأثر العلاقة بين “حزب الله” و”حركة أمل”؟

لا شكّ أن مخاطبة الحزب للرئيس بري طرحت مجدداً قضية التمايز في الموقف بين الفريقين الحليفين من دون أن تكون لهذا التمايز ترجمة في أي مرحلة سابقة. وعلى رغم أن العلاقة بين “حزب الله” و”حركة أمل” ليست علاقة ظرفية أو تكتيكية، بل هي علاقة استراتيجية تاريخية عميقة تمتد لعقود، وبالتالي فمن غير المرجح أن يؤدي هذا الكتاب وحده إلى شرخ كبير بين الطرفين، إلا أن مخاطبة بري كما الرئيسين عون وسلام يعني أن هناك اختلافاً غير معلن داخل “الثنائي الشيعي” حول درجة المرونة المطلوبة في التعامل مع المبادرات الدولية والعربية وآليات التفاوض وأيضاً حول توقيت معالجة موضوع السلاح. في المقابل يعتبر آخرون أن هذه الاختلافات، إن وُجدت، تبقى في إطار التكتيك وليس الاستراتيجية. فالتحالف بين الثنائي أكبر من أن يتأثر بموقف واحد، وبخاصة أن التحديات المشتركة التي تواجههما تفرض عليهما الحفاظ على وحدة الموقف.

تنسيق في العلن، تمايز في العمق؟

من جهتها، تقرأ المصادر المقربة من عين التينة في موقف قاسم تمايزاً واضحاً عن موقف رئيس مجلس النواب، خصوصاً في موضوع التفاوض. وبينما يبدي الثنائي “أمل- حزب الله” الحرص على إبقاء التحالف والتلازم السياسي قائماً، إلا أن كتاب الحزب حمل في طياته تفسيرات عدة تكشف عن فوارق دقيقة لكنها جوهرية.

فأولاً، يشير الكتاب ضمنياً إلى أن بري لا يعبر دائماً عن موقف الحزب بالكامل. فإذا كان رئيس المجلس، كرجل دولة ومسؤول دستوري، مضطراً إلى التعامل مع المواقف والضغوط بمرونة معينة، فإن الحزب يتعامل مع القضايا نفسها من منظور حزب مسلح له حساباته الخاصة وخطوطه الحمراء الأكثر صرامة.

ثانياً، يلاحظ المراقبون انسجاماً واضحاً بين الرئيسين عون وبري في التعاطي مع الملفات الساخنة، بينما لا يظهر هذا التناغم نفسه بين عون والحزب، الأمر الذي يفسر جزئياً لهجة الكتاب وتوقيته.

ثالثاً، أجهض بري مراراً كل الدعوات إلى تحركات داخلية كان انطلق بها الحزب بشكل مباشر أو غير مباشر، ولم يتردد في القول إنه “سيواجه أي تظاهرات بنفسه على الأرض”، مما يعكس موقفاً أكثر انفتاحاً على التسويات الداخلية.

رابعاً، يبقي بري قنوات التواصل فعالة مع الأميركيين، في وقت تزيد واشنطن من إجراءاتها المالية والسياسية ضد “حزب الله”، وهو ما قد يُفسر على أنه براغماتية سياسية قد لا تتماشى دائماً مع خطاب الأخير بشكل مطلق.

وأخيراً، يُظهر بري اهتماماً واضحاً بالملف اللبناني الداخلي، وبأولوية إعادة الإعمار وعودة المهجرين إلى بلداتهم الجنوبية، بينما تشكل السياسة الإيرانية وتوجهاتها الإقليمية أولوية في اهتمامات الحزب، بخاصة بانتظار أن تحسم طهران مسارها في التفاوض أو الاشتباك مع الأميركيين.

أمر عمليات من إيران؟

يذهب الكاتب السياسي يوسف مرتضى أبعد من ذلك في تحليله، معتبراً أن كتاب “حزب الله” للرؤساء الثلاثة هو في الواقع “أمر عمليات صادر من إيران وأعلنه الحزب بنفسه”. ويرى أن شمول الكتاب الرئيس بري يُعد خروجاً عن مبدأ العلاقة التاريخية بين الفريقين، وعن توصيفه التقليدي بـ”الأخ الأكبر” والمفوض بالتحدث باسمهم.

ويعتبر مرتضى أن القرار ليس حالياً في يد قيادة “حزب الله” التي تعمل بتوجيهٍ مباشر من إيران في أدق التفاصيل. ويوضح أنه في زمن حسن نصرالله، كان يمكن أن نشهد بعض المبادرات الداخلية المستقلة، لأن نصرالله بموقعه وتأثيره الكبير الذي تجاوز حدود الحزب ولبنان ليصل إلى المستوى الإسلامي العام، كان يتمتع بهامش مناورة أوسع مع طهران.

أما اليوم، فقيادة “حزب الله” باتت قيادة تنفيذية للأوامر الإيرانية بالمطلق. ويرى مرتضى أن إيران أرادت من خلال هذا الكتاب أن تقول للرئيس عون وللمسؤولين اللبنانيين إن “حزب الله” وسلاحه ورقة في يدها، وإنها هي التي تفاوض أميركا بشأنه، وليس لبنان مع إسرائيل. والمقصود إذاً هو تجميع ما تبقى من أوراق لإيران لاستخدامها في تحسين شروط التفاوض مع الأميركيين، والحزب جاهز ليخدم في هذا المجال كورقة ضغط إقليمية.

لكن مرتضى يضيف أن لبنان، بعدما بات تحت وصاية أميركية فعلية، فإن الموقف الإيراني الذي عبر عنه “حزب الله” قد يكون غير قابل للصرف، أي لا يمكن تجييره لمصلحة إيران كما تأمل. ويشير إلى أن هناك محاولة أميركية- مصرية لفصل ملف لبنان عن الملف الإيراني، ومحاولة الضغط على إسرائيل للاستجابة لبعض مطالب لبنان، الأمر الذي يمكن أن يسهل عملية بدء المفاوضات.

هذا السيناريو، إن تحقق، سيحرج “حزب الله” أكثر وقد يضطره إلى السكوت على مبادرة التفاوض التي أطلقها الرئيس عون، رغماً عن كل التحفظات المعلنة.

هل سحب نعيم قاسم تفويض “الأخ الأكبر” من نبيه بري؟ .

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...