لعلّ أكثر ما يصدم من يزور بيروت هذه الأيام ما آل إليه شارع الحمراء المشهور والشوارع المحيطة به. يبدو كأنّ جزءا من بيروت انفكّ عن بيروت. لم تعد من علاقة للناس الموجودة في الحمراء ومحيطه بالناس التي كانت في هذا الشارع الذي شكّل في مرحلة معيّنة رمزاً للبنان المزدهر ولبيروت كمدينة جامعة بالفعل لكلّ ما هو حضاري في الشرق والغرب وشمال الكرة الأرضيّة وجنوبها.
بات شارع الحمراء، بوضعه الراهن، تعبيراً عن ضحالة الحياة السياسية اللبنانية من جهة وعنواناً لتجفيف العلاقة بين اللبنانيين والعرب والأوروبيين والأميركيين تنفيذا لرغبة في عزل لبنان وإفقاره. بات الحمراء ومحيطه أقرب إلى ضاحية فقيرة من ضواحي طهران لا أكثر.
في الماضي القريب، استفاد شارع الحمراء، أو الحمرا كما كان يسميه رواده واللبنانيون عموما، من عوامل عدة. تحوّل في مرحلة معيّنة إلى الشارع الأكثر شهرة في العالم العربي. بين هذه العوامل التي استفاد منها الشارع قربه من الجامعة الأميركيّة في بيروت التي لعبت دورا أساسيا في تحقيق نهضة لبنان وبيروت منذ تأسست في العام 1866.
سقوط على مراحل
لم يكن بروز الحمرا بعيدا عن مرحلة ما بعد احداث العام 1958 وانتقال قسم كبير من النشاط التجاري والثقافي من وسط المدينة إلى رأس بيروت التي تميزت دائما بالتنوع ونمط حياة خاص بها. سماها الراحل سمير صنبر، اللبناني الفلسطيني الأصل الذي شغل مواقع مهمّة في الأمم المتحدة وأحد الذين عايشوا تلك الفترة الذهبية “، جمهوريّة رأس بيروت”. أصدر سمير كتابا بهذا العنوان تذكّر فيه طريقة عيش فريدة من نوعها في هذا الجزء من لبنان، خصوصا على مستوى أسلوب التعامل والتهذيب والرقيّ…
في مطلع الستينات من القرن العشرين، صارت معظم صالات السينما والمسارح في الحمرا حيث اشتهر مقهى “هورس شو” الذي قامت بالقرب منه مقاه عدة منافسة. كذلك، انتقلت إلى مدخل الحمرا جريدة “النهار” التي كانت في سوق الطويلة. رأى غسان تويني باكرا، منذ مطلع الستينات، أين مستقبل المدينة. كذلك، رآه مع نجله جبران في زمن لاحق، زمن النصف الأوّل من التسعينات، حين انتقلت “النهار” إلى وسط بيروت الذي أعاد الحياة إليه رفيق الحريري، الرجل الذي كان “مهووسا بلبنان وبيروت” على حد تعبير الصديق نهاد المشنوق.
سقط شارع الحمراء على مراحل حين بدأت هجرة الأجانب والمسيحيين منه بعد حرب 1975 التي كانت حربا لبنانيّة – لبنانيّة وحروب الآخرين على أرض لبنان. لا تتحمّل المنظمات الفلسطينية وحدها مسؤولية التدهور الذي ظهرت بوادره وقتذاك، بل هناك مسؤولية كبرى للنظام السوري الذي كان على رأسه حافظ الأسد الذي أراد تدمير بيروت على رؤوس أهلها بصفة كونها مدينة من المدن السنّية – المسيحيّة المنفتحة على العالم. كان لديه حقد ليس بعده حقد على أهل السنّة، خصوصا أهل المدن أكان ذلك في سوريا أو في لبنان.
لكن الضربة الكبرى لبيروت ورأس بيروت تحديدا وشارع الحمرا ومحيطه كانت في استخدام المنظمات الفلسطينية تنظيمات محلّية في عملية القضاء على العيش المشترك في البداية وفي حروب على الدولة اللبنانية بحجة الانتهاء من حكم “المارونيّة السياسيّة”. خرج صائب سلام من المدينة ليحل مكانه “المرابطون” الذين كانوا تحت سيطرة فلسطينيّة كاملة!
بات ما نشهده حاليا نهاية حزينة لرأس بيروت وشارع الحمرا على الرغم من وجود جزر لا تزال تقاوم البؤس. في الواقع، إنّ ما نشهده تتمة للحدث الكبير، الذي شكّل نقطة التحوّل، في 6 شباط – فبراير 1984. يومذاك، خرج الجيش اللبناني من ما كان يسمّى بيروت الغربية وحلت مكانه ميليشيات مذهبيّة من نوع حركة “امل” وما شابهها. مؤسف أنّ وليد جنبلاط كان جزءا من هذا الإنقلاب على بيروت، علما أنّه كان مفترضا به معرفة معنى ما اقترفه وما هي أبعاده… وأن إيران ستكون، عبر “الحزب” وطوال مرحلة امتدت لسنوات، اللاعب الأوّل في رأس بيروت.
الحاجة إلى معالجة سريعة
منذ ذلك اليوم، تغيّرت بيروت الغربيّة كلّيا، بما في ذلك رأس بيروت. تغيّرت على مراحل وصولا إلى ما وصل إليه شارع الحمراء، أو الحمرا، حيث تنتشر الآن الفوضى من دون حسيب أو رقيب في ظلّ غياب كامل للدولة بكل مؤسساتها وأدواتها. لا تشمل الفوضى حركة السير فحسب، بل هناك أيضا اعتداء واضح على الرصيف والنظافة. زال الرصيف من الوجود في هذه المنطقة وترهلت البنايات وتحولت المساحات الخضراء مكبا للنفايات…
أين وزارة الداخلية؟ أين المحافظ؟ أين بلدية بيروت؟ أين نواب العاصمة الذين لا يعيرون أي أهمّية لما يدور في شارع الحمرا؟ هناك غياب تام للجميع عن هذه البقعة العزيزة من بيروت التي تعرّضت لتغيير ديموغرافي أقلّ ما يمكن إن يوصف به أنّه تغيير في غاية البشاعة والبؤس.
كلّ ما هو مطلوب أن تعي الدولة اللبنانية، على أعلى المستويات ما يدور على الأرض وذلك من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذا الجزء من بيروت الذي تحوّل بقدرة قادر إلى سلة للمهملات، حتى لا نقول مزبلة. يبدأ الوعي بالنزول إلى الشارع ومعاينة الوضع وطرح أسئلة من نوع هل من خطوات يمكن الإقدام عليها تفاديا لانتشار العدوى التي أصيب بها شارع الحمرا إلى ما هو ابعد منه. الأكيد أن الحمرا في حاجة إلى معالجة سريعة يمكن أن تبدأ بتنظيم سير الدراجات الناريّة.
الحاجة إلى تحرّك للدولة قبل فوات الأوان. الحاجة إلى عملية إنقاذ وإن بدءا بخطوات متواضعة. الأمر الوحيد الأكيد أنّ ليس مسموحا بقاء الأمور على حالها، كون أي إهمال يشكل دعوة إلى انتشار للمرض الخبيث الذي تعاني منه الحمرا ومحيطها.
نهاية حزينة لشارع الحمرا… .







