قبل 500 سنة وصف البابا لاوون العاشر الموارنة بـ “الوردة بين الأشواك”، لكن لاوون الرابع عشر وصل إلى “وطن الأرز” لا “وطن الوردة”. ورغم إغراء الوصف البابوي “الوردي” استقرّت الأرزة على العلم، واستبعد اللبنانيون رموز الإيحاءات السماوية مثل الشمس والهلال والنجمة، واختاروا شجرة دائمة الخضرة، أكثر مناعة بين أشواك التاريخ وأقرب إلى أبنائها من أقمار ونجوم خارج النظام الشمسي.
وبابا السلام، أوّل ما وطئ أرضنا، استمع إلى 21 طلقة مدفعية، فجاء التشريف ليذكّر اللبنانيين بما سيعود إلى أسماعهم ما إن يغادر الزائر الأبيض. ويحلو للبنانيين، وبخاصة للمسيحيين، أن يربطوا بين الزيارات البابوية وتغييرات كبيرة في مصائرهم، وهذه المعتقدات، وإن حملت مبالغات، لا ضرر منها لأنها تقوّي الآمال وتشدّ العزائم. وما أضيق العيش لولا الفسحات البابوية التي ترسل إلى المسيحيين في هذا الوطن رسالة اعتراف بأن الكنائس اللبنانية نضالية وفي المواقع الأمامية لمسيحية تتصدّى بالعمل والصلاة لتحديات هذا الشرق العنيف.
إذا استثنينا يوم حطّ بولس السادس في مطارنا عام 1964 لساعة واحدة، زارنا في أقل من 30 سنة ثلاثة باباوات، وهذه العناية الروحية لا تحجب واقع أننا في وطن يزداد فيه عدد القديسين ويتناقص عدد المسيحيين. ورغم ذلك، من مصادر قوتنا أننا لا نشعر بأننا أقلية، ونؤمن ويؤمن معنا المسلمون بأن لبنان صناعة مسيحية، لكنه أضحى مُلكًا للجميع، فلا أفضلية لأحد إلّا باحترام وديعتي الحرية والعيش معًا.
ويجب أن نعترف أن البطريركية المارونية، رغم تسليمها الإيماني بمرجعية روما، ناضلت عبر محطات عديدة لتحفظ نوعًا من الخصوصية بكونها بطريركية مشرقية أنطاكية على قدم المساواة مع الإسكندرية والقسطنطينية وأورشليم وروما. ومن دواعي الفخر أن كرسي أنطاكية وسائر المشرق أسّسه بطرس الرسول قبل ذهابه إلى روما. وهذه الأسقفيات بدأت نشأتها قبل 1700 سنة في نيقية، التي زارها لاوون الرابع عشر قبل أيام. وكما يسير الماروني على حبل مشدود في علاقته مع الفاتيكان، كل المسيحيين في لبنان ملزمون بابتكار دائم لمعادلات حماية صيغ العلاقة مع المسلمين. الفرح بالبابا لاوون لا يمنع الكلام بما يتعدّى الفرح. فقدرة الحبر الأعظم واسعة على إصلاح الترهّل الحاصل في الكنيسة وبعض مؤسساتها، لتتصدّى بقوة أكبر لما نذرت نفسها إليه.
عام 2016 عقد اجتماع بين البابا فرنسيس والبطريرك الروسي كيريل، وكان العنوان “الحاجة لردّ فعل مشترك على اضطهاد المسيحيين في الشرق الأوسط”، ورغم ما رافق اللقاء من نوايا حسنة لم يتحسّن وضع المسيحيين. لربما لأن الرجلين الجليلين، وبعد ألف سنة على الانشقاق، لم يجدا مكانًا للاجتماع إلّا في كوبا، المكان البعيد جدًا عن المشرق والشرق.
وللمصادفة، الجالس على كرسي روما عام الانشقاق سنة 1054 كان اسمه أيضًا لاوون. تكرّس الانشقاق بـ “كتاب حرم” وضعه موفد لاوون التاسع على مذبح كاتدرائية آيا صوفيا، التي حوّلها العثمانيون إلى مسجد، ثم حوّلها أتاتورك إلى متحف، ثم حوّلها أردوغان مرة أخرى إلى مسجد عام 2020.
يومها قال البابا فرنسيس إنه “متألم” من قرار تركيا. ما لا شك فيه أن الفاتيكان دائم الحرص على نجاح التجربة اللبنانية التشاركية بين المسيحيين والمسلمين، وأحد دواعي الحرص الأمل بأن ترتدّ الصيغة اللبنانية إيجابًا على مسيحيي الشرق الآخرين.
كما يجب الإقرار بأن الفاتيكان في مراحل معينة دفع المسيحيين إلى تقديم تنازلات سياسية أملًا في أن تنعكس مكتسبات على مسيحيي سوريا والعراق ومصر وفلسطين. لكن الأيام أثبتت أن الرهان أخطأ هدفه، وأن الاعتراض على تحويل المسيحيين إلى “حقل تجارب”، كما قال بشير الجميل، كان في مكانه.
ويمكن اختصار موقف الفاتيكان اليوم بالسعي إلى حماية الدور بعدما بلغت التنازلات حدودها القصوى، وإلى تعزيز الوجود لمواجهة موجات التطرف المتعدّدة الوجوه. لقد انتظمت العلاقة أخيرًا، وما تقوم به الرهبانيات في شؤون الحياة، ومعها الرعايا والحركات الرسولية، يدلّ على حيوية تستحق التقدير، وعلى الفاتيكان أن يعمل وفق “من له يُعطى ويُزاد”.
والمسيحيون أدرى بصوغ علاقتهم بالمسلمين في وطن الرسالة، ولقد نجحوا في التقارب والتفاعل، ربما أكثر مما نجحت كنائس الانشقاق في الاقتراب من “كنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية” بعد ألف سنة.
من الوردة إلى الأرزة: قراءة في مسار علاقة لبنان بالفاتيكان .






