يبدو أنّ بشار الأسد وعائلته، كما حاشيته المقرّبة، وجدوا ملاذاً آمناً ومترفاً في روسيا، بحسب تحقيق لصحيفة “نيويورك تايمز” كشف لمحاتٍ من حياة الرفاهية والبذخ التي يعيشها الديكتاتور السوريّ المخلوع وأفراد عائلته والمقرّبون منه في العاصمة الروسيّة موسكو.
شمل تحقيق صحافيّي “التايمز” 55 من كبار مسؤولي النظام السابق، من بينهم أصدقاء العائلة وأقاربها ومسؤولون سابقون، وافقوا على التحدّث شرط عدم الكشف عن هويّاتهم خوفاً على سلامتهم. واستند التحقيق إلى شهادات شهود ومعلومات منشورة على وسائل التواصل الاجتماعيّ.
وفقاً للتحقيق، بدأت حياة آل الأسد المترفة في المنفى منذ اللحظات الأولى لفرارهم إلى موسكو عبر طائرات خاصّة ومواكب سيّارات، بحسب ما كشف أحد الأقارب، واثنان من أصدقاء العائلة، وضابطان عسكريّان سابقان من الفرقة الرابعة التي كان يقودها ماهر الأسد. جميع هؤلاء كانوا على تواصل مع أفراد من عائلة الأسد، أو أقاموا معهم، أو التقوا بهم.
من الشّقق الفاخرة إلى الفيلا
تحت حراسة مشدّدة من أجهزة الأمن الروسيّة، أقام أفراد العائلة في البداية في شقق فاخرة تابعة لسلسلة فنادق “فور سيزنز”. من هناك، انتقل الرئيس المخلوع وعائلته إلى شقّة “بنتهاوس” من طابقين في برج الاتّحاد، الذي يضمّ مطعم “سيكستي” الشهير.
بعد أسابيع قليلة من سيطرة فصائل المعارضة على سوريا العام الماضي، اتّفق أن كان مغترب سوريّ في موسكو يتناول الطعام في المطعم الذي يستقبل بانتظام أعضاء النخبة السياسيّة الروسيّة وشخصيات أجنبيّة بارزة، وكان بشّار الأسد بين روّاده.
من شقّة “بنتهاوس”، نُقل الأسد لاحقاً إلى فيلا في ضاحية روبلوفكا المعزولة غرب موسكو، وفقاً لمسؤول سوريّ سابق على تواصل مع العائلة، معارف آخرين ودبلوماسيّ إقليميّ أُبلغ بالأمر من مسؤولين روس. تُعدّ هذه المنطقة وجهة مفضّلة للنخبة الروسيّة، وتضمّ مجمّعات سكنيّة وتجارية فاخرة.
لا تصريحات علنيّة..
أفاد مسؤولون سابقون ودبلوماسيّ إقليميّ للصحيفة بأنّ أجهزة الأمن الروسيّة تتولّى حراسة الأسد وتراقب تحرّكاته، وقد أمرت عائلته بعدم الإدلاء بأيّ تصريحات علنيّة. وفقاً لثلاثة مسؤولين سابقين آخرين، تحرّكت السلطات الروسيّة بسرعة في شباط الماضي عندما كتب حافظ الأسد، نجل بشّار الأسد البالغ من العمر 24 عاماً، عن هروب العائلة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ونشر مقطع فيديو له وهو يتجوّل في موسكو، قبل أن يتوقّف عن النشر كليّاً منذ ذلك الحين.
قال اثنان من معارف ماهر الأسد إنّهما شاهداه عدّة مرّات وهو يرتدي قبّعة بيسبول تغطّي عينيه في ناطحة سحاب لامعة في الحيّ التجاريّ بموسكو، حيث اعتقدا أنّه يقيم. ذكر أحد أصدقاء العائلة أنّه كان يسكن في أبراج “كابيتال تاورز” في المنطقة نفسها. وظهر ماهر الأسد في حزيران الماضي في مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعيّ داخل مقهى “مياتا بلاتينيوم” العصريّ للشيشة في مجمّع “أفيمول” التجاريّ والترفيهيّ القريب.
احتفالات أعياد الميلاد بين موسكو ودبي..
بالنظر إلى أنشطة بنات بشّار الأسد، يبدو أنّ العائلة ما تزال تحتفظ بثروة طائلة. في تشرين الثاني الماضي، دعا الديكتاتور المخلوع أصدقاءه ومسؤولين روساً إلى فيلا في ضواحي موسكو لإقامة حفل باذخ لمناسبة عيد ميلاد ابنته زين الثاني والعشرين، بحسب أحد أقاربه وضابط سابق في النظام وصديق للعائلة حضر أبناؤه أو أصدقاؤه المقرّبون الحفل. واحتفلت شام الأسد، ابنة ماهر الأسد، بعيد ميلادها الثاني والعشرين بحفل فخم امتدّ على ليلتين في منتصف أيلول، أُقيمت إحداهما في مطعم “باغاتيل” الفرنسيّ ذي البلاط الذهبيّ في دبي، والأخرى على متن يخت خاصّ.
لكلّ من زين وشام حساب خاصّ على مواقع التواصل الاجتماعيّ بأسماء مستخدمين لا تكشف عن هويّتهما بشكل واضح. غير أنّ “نيويورك تايمز” عثرت على هذه الحسابات وتأكّدت من صحّتها عبر معلومات حصلت عليها من أقارب وأصدقاء العائلة، إضافة إلى فحص الصور ومقاطع الفيديو المنشورة في حسابات أصدقائهما على “إنستغرام”. أظهر أحد المنشورات التي نشرتها الصحيفة من حفل عيد ميلاد شام الأسد بالونات ذهبيّة على شكل الرقم 22، محاطة بحقائب هدايا من علامات تجاريّة فاخرة مثل “هيرميس” و”شانيل” و”ديور”.
نشرت الصحيفة منشوراً آخر يُظهر صوراً للمحتفلين في مطعم “باغاتيل” محاطين بألعاب ناريّة من الشمبانيا، وتظهر في إحدى الصور أسماء الأسد وهي تهزّ زجاجة كريستال وسط هتافات الحضور. نُشرت صورة أخرى مع الإشارة إلى حساب ابنة عديلها زين على “إنستغرام”، على الرغم من أنّها لم تكن حاضرة في الصورة.
وفقاً للمنشورات، استمرّ الاحتفال في اليوم التالي على متن يخت مضاء يحمل اسم “Stealth Yacht”، مع منسّق موسيقى وأضواء مبهرة. يُظهر حساب على مواقع التواصل الاجتماعيّ ليخت خاصّ للإيجار في دبي يحمل الاسم نفسه، صوراً من الحفل. بحسب الموادّ التسويقيّة، فإنّ اليخت مجهّز بأجهزة دخان، وعدّة بارات، وحوض جاكوزي، وتبلغ كلفة استئجاره عشرات آلاف من الدولارات لبضع ساعات، إضافة إلى آلاف أخرى لمنسّقي الموسيقى والنادلين والفنّانين.
الفصل من جامعة السّوربون
بحسب التحقيق، ووفقاً لاثنين من أصدقاء العائلة وضابطين عسكريَّين سابقين على تواصل مع ماهر الأسد أو حاشيته، تقيم ابنتا الرئيس السوريّ السابق في الإمارات العربيّة المتّحدة، حيث تمضيان أوقات فراغهما. أبرم آل الأسد اتّفاقاً خاصّاً مع مسؤولين إماراتيّين يسمح لأبنائهم بالبقاء في البلاد. وبعد أسابيع قليلة من سقوط النظام، عادت زين الأسد إلى دراستها في فرع أبو ظبي لجامعة السوربون الفرنسيّة المرموقة، وكانت، بحسب إحدى زميلاتها، تحضر دائماً برفقة حرّاس شخصيّين ضخمي البنية داخل الحرم الجامعيّ.
غير أنّ عودتها لم تلقَ ترحيباً من جميع الطلّاب السوريّين. في دردشة جماعيّة على الإنترنت، قالت لها إحدى الطالبات إنّها “غير مرحّب بها”، وفقاً لشخصين، قبل أن تُغلق المحادثة بالكامل بعد ذلك بوقت قصير، ولم تعُد الطالبة تُرى في الحرم الجامعيّ. قال أحد أقارب الطالبة إنّها استُجوبت من قبل السلطات الإماراتّية، واضطرّت لاحقاً إلى ترك الجامعة، جزئيّاً بسبب هذه المحادثة. في المقابل، أعلنت جامعة السوربون – أبو ظبي أنّ فصل الطالبة كان “مسألة أكاديميّة بحتة”، مشيرة إلى ثلاث مخالفات، من بينها الغشّ، وأكّدت أنّ الخلاف في مجموعة الدردشة “لا علاقة له” بقرار الفصل.
وفقاً لشهادة أحد زملاء زين الأسد، لم تحضر المحاضرات خلال جزء من الفصل الدراسيّ الأخير، لكنّها تسلّمت شهادتها في حزيران الماضي من معهد موسكو الحكوميّ للعلاقات الدوليّة، حيث كانت مسجّلة أيضاً. أظهرت صور حفل التخرّج حضور إخوتها ووالدتها.
كيف تخلّى الأسد عن مساعديه…
بحسب قائدَين سابقين وصديق للعائلة، اتّبع بشّار الأسد وشقيقه، في منفاهما، نهجين مختلفين في التعامل مع من خدموا سابقاً في النظام. كان ماهر الأسد أكثر كرماً نسبيّاً مع أقرب ضبّاطه، فأرسل أموالاً لمساعدة حلفائه القدامى في العثور على شقق أو بدء مشاريع صغيرة في حياتهم الجديدة، في حين ترك بشّار الأسد مساعده الشخصيّ وحيداً في موسكو.
وفقاً لاثنين من أصدقاء المساعد ومساعد آخر قالوا إنّهم تحدّثوا معه، كان هذا المساعد، الذي شملت مهامّه حمل حقائب الرئيس وفتح الأبواب له، من بين القلائل الذين اصطحبهم الأسد في رحلته السرّيّة إلى موسكو في كانون الأوّل 2024. وقد أُمر بالانضمام بشكل مفاجئ، لدرجة أنّه لم يتمكّن من أخذ جواز سفره أو حزم نقوده وملابسه. رافق المساعد الأسد إلى الشقق الفاخرة في فندق “فور سيزنز”، حيث طُلبت منه مشاركة جناح منفصل مع اثنين آخرين من مساعدي الأسد.
صباح اليوم التالي، قدّم أحد موظّفي الفندق فاتورة باهظة، بحسب الأصدقاء والمساعد. حاول المساعدون الثلاثة، في حالة من الذعر، الاتّصال بالأسد مراراً، لكنّه لم يُجِب. في نهاية المطاف، تدخّل المسؤولون الروس، عارضين نقل المساعدين إلى موقع عسكريّ من الحقبة السوفيتيّة مع ضبّاط آخرين من النظام برُتب أدنى.
غير أنّ المساعد الشخصيّ المفلس فضّل ترتيب عودته إلى سوريا. قال ثلاثة أشخاص على تواصل معه إنّه يعيش اليوم بهدوء مع عائلته في قرية جبليّة، على أمل تجنّب لفت الأنظار. رفض التحدّث إلى “نيويورك تايمز”ّ عندما تواصل معه وسيط. بعد مرور عام، يعاني المساعد من ضائقة ماليّة، ويضطرّ أحياناً إلى تلقّي مساعدات ماليّة من مسؤول سابق في النظام لتغطية نفقاته. قال زميله المساعد إنّ آل الأسد لم يقدّموا له أيّ مساعدة على الإطلاق، مضيفاً: “يعيش بشّار حياته على أكمل وجه، وكأنّ شيئاً لم يكن. لقد أهاننا عندما كان هنا، وخدعنا عندما رحل”.
منفى الأسد وعائلته: احتفالات باذخة تحت الحراسة .





