ما يؤمل من المفاوضات مع إسرائيل لن يكون أفضل من 17 أيار، لكن بجردة تاريخية يمكن القول إنّ عشرات السنوات من خسارة الاستقرار والحروب بالوكالة كان يمكن أن تنقل لبنان إلى موقع مختلف، أكثر سيادة وأقل دماً، لو لم يُلغِ حافظ الأسد اتفاق 17 أيار
أكثر من أربعين سنة مرت على توقيع ثم إلغاء اتفاق 17 أيار. لقد حوّلوا الاتفاق، ومعه الرئيس الراحل كامل الأسعد والرئيس أمين الجميّل، إلى خونة، ثمّ شيطنوا الاتفاق لهدف واحد: إبقاء الجنوب مسرحًا لحافظ الأسد وطهران، والثمن كان غاليًا جدًا. أربعون عامًا والمسرح ينزف دمًا، أما إيران وسوريا فكانتا تستمتعان بورقة ثمينة اسمها الورقة اللبنانية، تستعملانها لنيل الاعتراف من أميركا. أُلغي الاتفاق ثم مُنع الجيش من الدخول إلى الجنوب، وكان ما كان في حربي 2006 و2024، وماذا بعد؟
اتفاق 17 أيار الذي وُقّع في خلدة وكريات شمونة عام 1983، لم يكن اتفاق استسلام ولا إذعان كما صُوّر، بل محاولة جريئة لإعادة الدولة إلى الجنوب بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وإعادة السيادة إلى الشرعية اللبنانية على كامل أراضيها. فقد نصّ الاتفاق على إنهاء حالة الحرب بين لبنان وإسرائيل، واحترام السيادة والاستقلال وسلامة الأراضي، وسحب القوات الإسرائيلية خلال فترة لا تتجاوز اثني عشر أسبوعًا، وإنشاء منطقة أمنية يديرها الجيش اللبناني بإشراف لجنة ثلاثية برئاسة أميركية، ومنع أي نشاط عدائي بين الطرفين. كان الهدف تثبيت الحدود الدولية وتحييد لبنان عن صراعات المحاور.
لكن حافظ الأسد لم يكن ليسمح بقيام دولة لبنانية حرة تخرج من تحت عباءته. فمارس كل أنواع الضغط والتهديد لإسقاط الاتفاق، وسخّر أدواته في الداخل، من أحزاب وقوى، لتخوين الموقّعين عليه وشيطنة أي طرح للسلام. أراد بقاء لبنان ورقة تفاوض بيده مع واشنطن وتل أبيب، وأراد الجنوب ساحة نفوذ أمني له ولإيران عبر حلفائهما. سقط الاتفاق في البرلمان تحت وطأة التهديد، ودخل لبنان بعدها مرحلة طويلة من الوصاية السورية التي كبّلته سياسياً وأمنياً حتى عام 2005.
لو لم يُلغَ اتفاق 17 أيار، لكان الجيش اللبناني استعاد سلطته على حدوده الجنوبية، ولما تحوّل الجنوب إلى ساحة حرب مفتوحة باسم “المقاومة” الدائمة. كان يمكن للبنان أن يعيش استقراراً مشابهاً لذلك الذي تعيشه دول حدودية أخرى، وأن يكرّس حياده بدل أن يُستنزف في صراعات الآخرين. ما يؤمل من المفاوضات مع إسرائيل لن يكون أفضل من 17 أيار، لكن بجردة تاريخية يمكن القول إنّ عشرات السنوات من خسارة الاستقرار والحروب بالوكالة كان يمكن أن تنقل لبنان إلى موقع مختلف، أكثر سيادة وأقل دماً، لو لم يُلغِ حافظ الأسد اتفاق 17 أيار.
لو لم يلغِ حافظ الأسد اتفاق 17 أيار .




