بعد تأخير ستّ سنوات، أقرّت حكومة نوّاف سلام، بالتصويت، مشروع قانون الانتظام الماليّ واستعادة الودائع، وسجّل تسعة وزراء اعتراضهم (تمارا الزين، راكان ناصر الدين، محمّد حيدر، جو عيسى الخوري، كمال شحادة، جوزيف الصدي، نوار بيقرداريان، عادل نصّار، وشارل الحاج)، وغاب وزير (غسان سلامة)، وغادر آخرٌ الجلسة قبل التصويت (يوسف رجّي)، فكان مجموع مؤيّدي المشروع 13 وزيراً بينهم 3 (بول مرقص وأحمد الحجّار وميشال منسّى) سجّلوا ملاحظاتهم.
هكذا رمت الحكومة الكرة في ملعب مجلس النوّاب، الذي من المتوقع أن تنقض كتله النيابيّة على المشروع لتفريغه وتجويفه قبل إقراره مشوّهاً، أو تنويمه على طاولات اللجان خشية من نقمة الرأي العامّ “الموعود” بالحصول على كامل “وديعته المقدّسة”، كما سبق للقوى السياسيّة أن تعهّدت.
في الواقع، كان يفترض بحكومة “الانهيار الأوّل” (2019) أن تقرّ هذا المشروع بالتوازي مع مشروع الكابيتول كونترول، لمحاصرة مفاعيل التدهور الماليّ والنقديّ، وحماية ما بقي من ودائع في المصارف اللبنانيّة. لكنّ الطبقة السياسيّة برمّتها لجأت إلى طريقة الهروب إلى الأمام و”الضحك على ذقون” المودعين، من خلال إقناعهم بأنّ ودائعهم مقدّسة ستُردّ بالتمام والكمال. كلّ ذلك في سبيل كسب الوقت بهدف:
- تذويب جزء كبير من الودائع، التي بالفعل انخفض حجمها من حوالي 170 مليار دولار (قبل الانهيار) إلى حوالي 85 مليار دولار.
- حماية رساميل أصحاب المصارف والمساهمين فيها، وهم في جزء كبير منهم من السياسيّين أو محميّون منهم.
- البحث عن تسوية ما تقيهم شرّ العبور الإلزاميّ في برنامج صندوق النقد الدوليّ.
لكن بعد ستّ سنوات، جرؤ نوّاف سلام على وضع الإصبع على الجرح ومواجهة هذا الاستحقاق، ولو أنّ المشروع يحتمل الكثير من الانتقادات والملاحظات، ليس أقلّها افتقاره إلى رؤية علميّة موثّقة بالأرقام ليخرج المشروع إلى الضوء بعدما أُبقي لسنوات وعن سابق تصميم في العتمة.
خطوة أولى
وفق المعنيّين، أيّ قانون لتوزيع الخسائر سيكون موضع اعتراض من جهة ما، لكن لا بدّ من خطوة أولى. وهذا ما قام به سلام الذي حاول التسويق للمشروع الذي بدا يتيماً إلّا من أبوّة رئيس الحكومة له. لكنّ بقيّة مكوّنات السلطة نبذته وتستعدّ لرجمه بالحجارة حين يصل أعتاب البرلمان.
وفق خارطة التصويت في مجلس الوزراء، الذي كان لا بدّ منه لإقرار المشروع، يتبيّن أنّ الثنائي الشيعيّ غير متحمّس له مع العلم أنّ وزير المال ياسين جابر شريك أساسيّ في وضع المشروع. نُقل عن الرئيس نبيه برّي عدم ارتياحه للقانون ملمّحاً إلى أنّه لن يمرّ بسهولة في البرلمان، مشيراً إلى أنّ الأرقام التي قدّمها غير مقنعة، وكان يحتاج إلى مزيد من الدرس والنقاش في الحكومة.
تصدّى حزب “القوّات” للمشروع تحت عنوان إصراره على استعادة كامل الودائع، مع العلم أنّ الكرة الأرضيّة بكاملها تدرك أنّ هناك استحالة قاطعة لردّ كامل الودائع، سواء بعد تسييل الذهب أو توظيف القطاعات المنتجة. فيما عُلم أنّ الوزير الكتائبيّ عادل نصّار كان أكثر المشاكسين والمنتقدين لتفاصيل النصّ القانونيّ، منهياً مسيرة المشاكسة برفض المشروع.
يُسجّل أيضاً أنّ وزراء محسوبين على رئيس الجمهوريّة أيّدوا بخجل المشروع بعد تسجيل ملاحظاتهم وتحفّظاتهم، التي سيتمّ تجميعها يوم الإثنين خلال اجتماع مع رئيس الحكومة، كما تفيد المعلومات، لوضع الصياغة النهائيّة للمشروع قبل إحالته إلى مجلس النوّاب، حتّى إنّ حاكم مصرف لبنان كريم سعَيد عاد وانقلب على المشروع الذي شارك في صياغته.
الأهمّ من ذلك كلّه هو أنّ هذا القانون شرّ لا بدّ منه مهما تذاكت الطبقة السياسيّة أو تحايلت. هو شرط أساسيّ من شروط صندوق النقد الدوليّ، ولا هروب منه. هنا يلاحَظ أنّ الإدارة الفرنسيّة سارعت إلى تهنئة لبنان بإقرار المشروع، لكنّ باريس على الرغم من دورها الفاعل في لبنان ليست مؤثّرة في مسار التعافي المرتبط بالصندوق الدوليّ، الذي لا يزال وفق الخبراء غير راض عن النسخة التي أقرّها مجلس الوزراء.
مع ذلك، تفيد المعلومات أنّ الضغط الفرنسي على الحكومة اللبنانية هو الذي ساهم في إخراج المشروع من العتمة، حيث أقنع المسؤولون الفرنسيون، نظراءهم اللبنانيين بأنّ باريس مفوّضة دولياً، وتحديداً من واشنطن والرياض بإدارة الملف الاقتصادي- الإصلاحي في لبنان، وأنّها تستطيع تليين موقف صندوق النقد الدولي واسقاط بعض ملاحظاته. من هنا حرص رئيسا الجمهورية والحكومة على إقرار المشروع في الحكومة. أما مصيره في البرلمان، فتلك قصة أخرى… حيث يبدو أنّ الرئيس بري غير مقتنع بالدور الفرنسي.
من الآن وصاعداً، سيكون مجلس النوّاب هو المسؤول عن مصير القانون في وقت تتحدّث المعلومات عن تصاعد وتيرة الاعتراض على المشروع لكي تتمّ محاصرته في البرلمان، مع العلم أنّ المصارف ليست متفاهمة على رفض المشروع لأنّ عدداً لا بأس به منها يفضّل إقراره للانطلاق في مشروع إعادة الهيكلة، خصوصاً أنّ هذه المصارف سدّدت أو ذوّبت جزءاً كبيراً من ودائعها وتسعى إلى انطلاقة جديدة.
تعريف القانون
في تعريف القانون، هو إطار قانونيّ لمعالجة واحدة من أعنف الأزمات الماليّة والمصرفيّة التي عرفها لبنان. يهدف، نظريّاً، إلى تحديد حجم الخسائر في النظام الماليّ، تنظيم إعادة هيكلة المصارف ووضع آليّة للتعامل مع الودائع العالقة منذ بداية الانهيار. إلّا أنّ تقويم هذا القانون لا يمكن أن يتمّ بمعزل عن جذور الأزمة نفسها ولا عن المبادئ الأساسيّة لأيّ إعادة هيكلة جدّيّة.
وفق الخبراء، لم تكن الأزمة اللبنانيّة نتيجة صدمة خارجيّة، بل نتاج نموذج اقتصاديّ وماليّ انهار من داخله، نموذج قام على عجز ماليّ مزمن ودين عامّ متراكم وسياسة نقديّة ثبّتت سعر الصرف لعقود، فتحوّل مصرف لبنان إلى مموّل غير مباشر لدولة عاجزة، وهو ما سمح بقيام قطاع مصرفيّ ركّز الجزء الأكبر من مخاطره على الدولة والمصرف المركزيّ، على حساب المودعين.
من حيث المضمون، يرتكز قانون الفجوة على عناصر أساسيّة أبرزها: إجراء تدقيقات وتقويم ملاءة المصارف، تنظيم إعادة الرسملة، تحديد آليّة لسداد جزء من الودائع نقداً ضمن سقوف معيّنة وتحويل الجزء الباقي إلى أدوات ماليّة طويلة الأجل. غير أنّ الإشكاليّة الجوهريّة تكمن في ترتيب الأولويّات وتسلسل تحمّل الخسائر.
هنا يحدّد الخبراء المعايير المعتمَدة دوليّاً في أزمات مماثلة: الاعتراف بالخسائر، شطب رساميل المساهمين في المصارف قبل المساس بودائع الناس، ثمّ توزيع الخسائر وفق تسلسل المسؤوليّات. ما يثير القلق هو أنّ المشروع المطروح يحمّل المودعين جزءاً أساسيّاً من الكلفة عبر تحويل ودائعهم إلى التزامات مؤجّلة، في وقت يبقى مصير رساميل المصارف ومسؤوليّات الدولة والمصرف المركزيّ غير محسوم بشكل صريح في النصّ.
بهذا الشكل، لا ينهي القانون حالة الإفلاس، بل يديرها ويؤجّلها. تتحوّل الوديعة من حقّ ثابت إلى وعد مؤجّل، ويستبدل القانون الحلّ الجذريّ بإطار إداريّ هشّ، مهدّداً بإعادة إنتاج الأزمة بدل إنهائها.
قانون الفجوة: قدر لا مفرّ منه.. .





