حين اجتاح أحمد الشرع دمشق، لم يدخلها بوقعِ أقدامٍ فقط، بل بوهج مقصّ عملاق شقّ حبل السرّة الذي ظلّ دهرًا يشدّ “حزب الله” بطهران، ويضخ في عروقه مالًا وعتادًا كما يضخ رحمٌ دافئ حياةً في جنين مخصّب يتهيّأ لولادة لا تنتهي. وإذا كان ثابتًا أن حبل السرّة قُطع، فإن الثابت أيضًا أن حبل الإمداد بقي مشدودًا بين الأم ووليدها، وإن تبدّلت قنوات التغذية ومخارجها ومجاريها تحت ضغط تحوّل الموازين الإقليميّة.
هذا ما تؤكّده رواية “حزب الله” ومروّجو سرديته عن استمرار الإمداد والتدفق، وهذا ما جاء به وفد الخزانة الأميركية إلى بيروت، الذي ألقى على الطاولة رقماً لامعًا، قال إنه هطل من سخاء طهران على أرض لبنان منذ مطلع العام.
وبين روايةٍ تتحدّث عن ثلث ميزانية الدولة اللبنانية في جيب “حزب الله”، وأخرى تقلّل من ضخامة رقم المليار دولار، يبقى أن الدخان لا يصعد إلّا من نار، وأن مسار التمويل، أيًا تكن دقة الأرقام، يؤكّد أن حبلًا سريًا جديدًا تشكّل في الظلّ. حبلٌ أقلّ سماكةً وأثرًا من الحبل السوري، ويفوقه طولًا، لكنه يبقى حبلاً رغم اختلاف المسافات والأحجام والأوزان. وبهذا، يغدو المشهد محكومًا بحبلين: حبلٌ قُطع في العلن، وحبلٌ يُجدّد في الخفاء. فأيّ مسارات تشقها الأموال؟ وأيّ طرق قد يشقها السلاح معها؟
بحسب معلومات حصرية حصلت عليها “نداء الوطن” من مصادر رفيعة المستوى، ما انقطع في العلن وجد طريقَين ليتجدّد في الخفاء: الطريق الأوّل، يمرّ عبر دولة أوراسيّة، والطريق الثاني، يمرّ عبر دولة شرق أوسطيّة. وإذا كان المساران قد أصبحا معلومين، يبقى السؤال المجهول: كيف؟ ووفق أيّ هندسة لوجستية يتوارى ما يجب أن يُرى؟
تؤكّد مصادر “نداء الوطن” وجود غطاء لوجستي يوفره نشاط شركتين عالميتين وثالثة لبنانية، دون أن يعني ذلك ضلوع هاتين الشركتين في إدخال “ممنوعات” إلى لبنان. وهنا، تشدّد المصادر أن البنية اللوجستية للتهريب تستفيد من اسمَي شركتين لا تعلمان ما يُخبّأ بين طبقات البضائع التي تمرّ تحت اسميهما. الشركة الأولى أوروبية المنشأ، فروعها معدودة في لبنان. والثانية صينية واسعة الانتشار، تدخل البيوت من بوابة الهواتف المحمولة. أمّا الثالثة فلبنانية، تواجدها الأبرز في الضاحية الجنوبية لبيروت، ومنتجها المستورد هو “الأكثر براءة” بين عجقة المستورَدات: شاشات حماية للهواتف المحمولة من الكسر.
هكذا، يتراءى المشهد وفقًا لرواية المصادر: طريقان، وثلاث شركات، وصناديق صامتة لا تُفصِح عن حقيقة ما تحمل. أمّا مبرّرات الارتياب التي تجعل الشكّ يقفز من الهامش إلى المتن في رواية المصادر، هو طائرات الشحن المتلاحقة منذ مطلع العام، مع تكثيف استثنائي في الشهرين الأخيرين. طائرات محمّلة بشاشات حماية تكفي كمياتها ـ لو صدق المضمون المصرّح عنه على الورق ـ لتحصين هواتف سكّان الكرة الأرضية جميعًا من الكسر، لا هواتف بلدٍ صغيرٍ يضيق على نفسه، أضف إلى ذلك ملابس وأحذية وأدوات منزلية تكفي كمياتها المصرّح عنها لنصف كوكب الأرض، على حدّ تعبير المصادر، فيما لبنان بلد لا يتجاوز حجمه النقطة على الخريطة العالمية.
نسأل المصادر: لماذا لا تخضع الشحنات المستوردة لتفتيشٍ دقيق في مطار بيروت، ما دام الشكّ بمحتوياتها يرقى إلى مستوى اليقين؟ فتأتي الإجابة أن الشحنات تصل من بلدين مصنفين Green Zone، أيّ من بلدان تُفترض براءتها سلفًا، فيمرّ ما يأتي منها مرور الهواء في الممرات. وتضيف المصادر أن لبنان في المقابل مصنف Red Zone، ما يجعل الكشف محصورًا بالصادرات الخارجة منه، أكثر من الواردات الداخلة إليه.
هكذا يصبح المشهد أكثر التباسًا: أخضر مشبوه يمرّ بلا عوائق، فوق أرض أحمرّ لونها بالشبهات. وبين الأخضر الذي يُفتح له الباب قبل أن يصل، والأحمر الذي يُغلق في وجهه الباب قبل أن يخرج، يبقى السؤال معلّقًا: أيّهما أخطر؟ اللون الذي ينجو من التفتيش، أم اللون الذي يُتهم بالذنب قبل أن يلمس عتبة المطار؟
تجزم المصادر وفق روايتها، أن الواردات الآتية إلى لبنان لا تقلّ خطرًا عن صادراته التي تدور حولها الشبهات، وتذهب أعمق من ذلك وتقول إن المسارات الخضراء لا تنقل العملة الخضراء فحسب، بلّ تحمل أحيانًا ما هو أثقل وزنًا وأبعد أثرًا. وبرأي المصادر، هذا الكلام لا يحتاج إلى الإثبات. فالإثبات هو حجم الواردات نفسه الذي يفوق حجم السوق اللبناني بأشواط وأشواط.
وهنا تشرح المصادر، أن الشحنات تخضع في أوقات متقطّعة ومتباعدة لـ “كبسات” كشاف على طريقة الضوء الوامض، وأنه تمّ قبل فترة قصيرة ضبط كميات كبيرة من النواضير الصالحة للاستخدامات العسكرية داخل شحنة يُفترض بحسب الأوراق أنها أدوات منزلية مصدرها الشركة الصينية واسعة الانتشار.
وهنا يطفو مشهدٌ آخر يتحدّث عن هذيان دولي وداخلي متقاطع، فيما لو صحّت روايتا المسارات والأحجام المنقولة عن المصادر العالمة بخطوط الوصل والفصل:
خارجٌ يرفع إصبعه في وجهِ لبنان، مطالباً إيّاه بضبط التهريب، وهذا الخارج نفسه، هو من يدمغ الدول بالأخضر والأحمر، فيحوّل “دول الأخضر” إلى ممراتٍ آمنة مهما كان ما يخرج منها.
وفي الداخل، المشهد لا يقلّ تشظيًا: تشكيلات أمنيّة وإقصاءات وظيفيّة تُسوَّق على أنها استجابة لشروط الخارج ومتطلّباته. وهذا الداخل، هو نفس الداخل الذي يُفترض أنه يشكّ في مضمون الشحنات، بحسب رواية المصادر، ويدعها تدخل تحت عنوان الاستعجال.
تذهب المصادر أبعد في روايتها، فتقول إن الكلّ مُدرك تمامًا أن بعض الصناديق المستوردة ذات قاعٍ مزدوج، وأن فيها ما يمرّ حين لا “يزوره” كشّاف. لكن المصادر تخفف من ثقل المشهد وحدّة الصورة عبر سرد معادلة لوجستية قاتمة:
الوقت المتاح لكلّ طائرة تهبط لا يتجاوز ساعتين إلى ثلاث قبل أن تعاود الطائرة الإقلاع، لإفساح المجال أمام وصول الطائرة التالية، وهذا الزمن الخالي من الفواصل، يجعل “الكبسات” أمرًا نادرًا أو مستحيلًا. أضف إلى ذلك، أن أحجام المستورَدات الضخمة تفوق مساحات التخزين المتواضعة، ما يجعل عملية وصول الشحنات وخروجها سباقًا مع الزمن وحركة خاطفة لا تسمح بالتدقيق.
طريقان وثلاث شركات وصناديق لا تُفصِح عمّا تحمل: مصادر تكشف مسارات المليار العابر .




