في لحظة إقليمية شديدة التعقيد، جاءت مواقف ديبلوماسية بارزة لدولة كبرى في بيروت، أطلقت في مناسبة ديبلوماسية، لتشكل ما يشبه خريطة طريق غير معلنة للمرحلة المقبلة، عنوانها الأبرز إقفال أبواب الحروب وفتح مسارات التسويات.
واللاءات الثلاث التي جرى التأكيد عليها لم تندرج فقط في سياق التطمينات، بل عكست قراءة معمقة لتوازنات داخلية وإقليمية ودولية، ولحدود المسموح والممنوع في هذه المرحلة الدقيقة.
اللافت أولا كان الجزم بعدم وجود أي أفق لحرب أهلية في لبنان. هذا الموقف يستند إلى معطيات تتجاوز الخطاب السياسي، إذ إن التجربة اللبنانية المريرة جعلت معظم القوى الداخلية، على اختلاف مواقعها، تدرك أن كلفة أي صدام داخلي ستكون وجودية على الجميع من دون استثناء. كما أن البيئة الإقليمية والدولية لا توفر اليوم أي غطاء أو مصلحة لإعادة فتح هذا الجرح، في ظل انهيارات اقتصادية واجتماعية تجعل الاستقرار أولوية لا بديل عنها.
اللاء الثانية، والمتعلقة باستبعاد أي مواجهة بين الجيش اللبناني و«حزب الله»، تحمل دلالات أعمق. فالمؤسسة العسكرية تعد اليوم خطا أحمر دوليا وإقليميا، باعتبارها الضامن الأخير لوحدة الدولة ومنع الانزلاق إلى الفوضى الشاملة. في المقابل، يدرك «حزب الله» كما سائر القوى، أن أي صدام مع الجيش سيشكل انتحارا سياسيا ووطنيا، ويقلب كل المعادلات التي حكمت الداخل اللبناني منذ أعوام. من هنا، يلتقي الداخل مع الخارج على تحييد الجيش عن أي سيناريو صدامي، وتثبيت دوره كعامل استقرار لا كطرف نزاع.
أما اللاء الثالثة، أي نفي احتمال حرب إسرائيلية جديدة على لبنان، فهي الأكثر استفهامية في ظل التصعيد الكلامي المتكرر. غير أن قراءة موازين القوى والظروف الدولية تبين أن إسرائيل، رغم تهديداتها، تدرك أن أي حرب جديدة لن تكون نزهة عسكرية، وقد تؤدي إلى اختلالات إقليمية لا يمكن السيطرة على تداعياتها. كذلك، فإن القوى الدولية الكبرى، وفي مقدمها الولايات المتحدة، لا ترى في فتح جبهة لبنان أو ايران أو الجبهتين معا مصلحة في هذه المرحلة، خصوصا مع انشغال العالم بملفات كبرى وبمحاولات تثبيت توازنات دقيقة في الشرق الأوسط.
هذه اللاءات تلازمها قناعة راسخة عبر عنها الديبلوماسي بوضوح، مفادها أن المسار العربي والإقليمي والدولي هو مسار تفاوضي سلمي، لا مسار حروب. فخلال السنتين الأخيرتين، تحققت إنجازات نوعية على مستوى خفض التوتر، وفتح قنوات حوار كانت مقفلة، وإعادة ترتيب أولويات القوى الكبرى، أي حرب جديدة، وفق هذا المنطق، قد تعيد خلط الأوراق بشكل خطير، وتنسف ما تحقق من توازنات، وتدفع المنطقة مجددا إلى دوامة لا يرغب بها أحد.
وفي هذا السياق، جاء المثال الذي قدمه الديبلوماسي حول حادثة سيدني ليعكس بوضوح آلية التعاطي الدولي مع محاولات تفجير الأزمات، فحين سارعت إسرائيل إلى توجيه اتهامات إلى ايران وأذرعها، كاد المشهد يستثمر لإشعال مواجهة جديدة في الشرق الأوسط، ولإعادة إنتاج خطاب الإسلاموفوبيا على نطاق واسع. إلا أن التدخل السريع للمجتمع الدولي، وللإدارة الأميركية تحديدا، إلى جانب الحكومة الأسترالية، أدى إلى تفكيك هذا المسار، وانقلبت الصورة رأسا على عقب مع بروز أحمد الأحمد، المسلم الذي تحول إلى بطل وأنقذ الأرواح، ما أسقط الرواية المسبقة وأفشل محاولة توظيف الحادثة سياسيا وأيديولوجيا.
الأهم، ان هذه اللاءات الثلاث تعكس حقيقة أساسية وهي ان المنطقة، ولبنان في قلبها، تقف اليوم تحت مظلة منع الانفجار لا تشجيعه، وضبط الصراعات لا تفجيرها. صحيح أن المخاطر لم تختف، وأن عوامل التوتر لاتزال قائمة، لكن الإرادة الدولية والإقليمية تتجه بوضوح نحو إدارة الأزمات وايجاد الحلول الجذرية لها لا تفجيرها. وبين واقع غير مستقر وطموحات كبيرة، يبقى الرهان على أن تترجم هذه اللاءات سياسات ثابتة، لأن كلفة البديل هذه المرة قد تكون أكبر من قدرة الجميع على الاحتمال.
سياسة اللاءات الكبرى تثبت إيصاد باب الحروب في لبنان والمنطقة .





