– أناقة وفخامة في استقبال الزائر البابوي واستنهاض شعبي يبلغ ذروته الثلاثاء
– إسرائيل عدّلت إجراءاتها العسكرية ضد «حزب الله» بما يتلاءم مع الزيارة
شكّلت الزيارةُ التي بدأها البابا ليو الرابع عشر لبيروت، ما يشبه «الدرعَ البابوية» للبنان الذي يأخذ حتى يوم غد «استراحةً» من الشرّ المستطير الذي يتربّص به على شكل حربٍ تتوعّد بها إسرائيل التي توحي بأنها تقترب من «الضغط على الزناد».
وفيما كان لبنان يَرسم بمراسم الاستقبال فوق العادي وأضوائه وما رافقه من استنهاضٍ شعبي معالم ثقافة الحياة التي انطبع بها والسلام الذي يتوق إليه، فإن «مواسمَ النار» لاحتْ من قريب مع رفْع تل ابيب منسوبَ تهديداتها بتوسيع هجماتها ضدّ «حزب الله» إذا لم تتحرك الحكومة اللبنانية ضدّه.
وإذ كشفت هيئة البث الإسرائيلية أنّ تل ابيب أبلغت إلى الحكومة هذه الرسالة عبر الإدارة الأميركية خلال الأيام الأخيرة، وأنّ إسرائيل قد تهاجم مناطق لم تصلها من قبل بسبب الضغط الأميركي، لم يقلّ دلالةً ما أوردته عن أن «الجيش الإسرائيلي عدّل إجراءاته العسكرية بما يتلاءم مع زيارة البابا لبيروت».
وفرضت هذه المناخات شديدة الخطورة نفسها على الزيارة البابوية وسط محاولة لبنان الرسمي الاستفادة من مفاعيلها ومن الثِقل الدبلوماسي للفاتيكان للحدّ من الاندفاعة الاسرائيلية وملاقاة بيروت في مسعاها لحضّ تل ابيب على الانسحاب من الأراضي التي تحتلها جنوباً ووقف اعتداءاتها والجلوس الى طاولة التفاوض لحل المشكلات العالقة.
وعَكَسَ كلام الرئيس جوزف عون من قصر بعبدا أمام البابا ما هو على المحكّ بالنسبة الى لبنان بإعلانه «أَبْلغوا العالم عنا، أننا لن نموت ولن نرحل ولن نيأس ولن نستسلم بل سنظل هنا، نستنشق الحرية، ونخترع الفرح ونحترف المحبة، وأننا باقون مساحة اللقاء الوحيدة، في كل منطقتنا، وأكاد أقول في العالم كله (…) بهذه المعادلة يعيش لبنان في سلام مع منطقته، وفي سلام منطقته مع العالم».
وفيما قال «واجبٌ الإنسانية الحية الحفاظِ على لبنان لأنه إذا سقطَ هذا النموذجُ في الحياة الحرة المتساوية بين أبناء ديانات مختلفة، فما من مكان آخر يصلح لها»، أضاف: «نجزم أن بقاء هذا اللبنان، الحاضر كله الآن من حولكم، هو شرط لقيام السلام والأمل والمصالحة بين أبناء ابراهيم كافة».
«طﻮﺑﻰ ﻟﻔﺎﻋﻠﻲ اﻟﺴّﻼم»
أما أول الكلام من بيروت للبابا في الكلمة التي ألقاها من القصر الجمهوري أمام عون ومستقبليه وبينهم السّلطات المدنيّة والدّينيّة، وأعضاء السّلك الدّبلوماسي فكان «طﻮﺑﻰ ﻟﻔﺎﻋﻠﻲ اﻟﺴّﻼم»، مشيراً إلى أنّ «هناك ﻣﻼﯾﯿﻦ اﻟﻠّﺒﻨﺎﻧﯿّﯿﻦ، هنا وﻓﻲ ﻛﻞّ اﻟﻌﺎﻟﻢ، ﯾﺨﺪﻣﻮن اﻟﺴّﻼم ﺑﺼﻤﺖ، ﯾﻮﻣﺎً ﺑﻌﺪ ﯾﻮم. أﻣّﺎ أﻧﺘﻢ، اﻟﺬﯾﻦ ﺗﺤﻤﻠﻮن اﻟﻤﺴﺆوﻟﯿّﺎت اﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﻓﻲ ﻣﺆﺳّﺴﺎت هذا اﻟﺒﻠﺪ، ﻓﻠَﻜُﻢ ﺗﻄﻮﯾﺒﺔ ﺧﺎﺻّﺔ إن اﺳﺘﻄﻌﺘﻢ أن ﺗُﻘَﺪِّﻣﻮا هدف اﻟﺴّﻼم ﻋﻠﻰ ﻛﻞّ ﺷﻲء. أودّ، ﻓﻲ ﻟﻘﺎﺋﻨﺎ هذا، أن أﻓﻜِّﺮ ﻣﻌﻜﻢ ﻗﻠﯿﻼً ﻓﻲ ﻣﻌﻨﻰ أن ﻧﻜﻮن ﻓﺎﻋﻠﻲ ﺳﻼم ﻓﻲ ظﺮوف ﺑﺎﻟﻐﺔ اﻟﺘّﻌﻘﯿﺪ، وﻣﻠﯿﺌﺔ ﺑﺎﻟﺼّﺮاﻋﺎت واﻻﺿﻄﺮاب».
وأضاف: «أﻧﺘﻢ ﺷﻌﺐ ﻻ ﯾﺴﺘﺴﻠﻢ، ﺑﻞ ﯾﻘﻒ أﻣﺎم اﻟﺼّﻌﺎب وﯾﻌﺮف داﺋﻤﺎً أن ﯾُﻮﻟَﺪ ﻣﻦ ﺟﺪﯾﺪ ﺑﺸﺠﺎﻋﺔ. وﺻﻤﻮدﻛﻢ ﻋﻼﻣﺔ ﻣﻤﯿّﺰة ﻻ يمكن اﻻﺳﺘﻐﻨﺎء عنها ﻟﻔﺎﻋﻠﻲ اﻟﺴّﻼم اﻟﺤﻘﯿﻘﯿّﯿﻦ (…) اﺳﺄﻟﻮا ﺗﺎرﯾﺨﻜﻢ. واﺳﺄﻟﻮا أﻧﻔﺴﻜﻢ ﻣﻦ أﯾﻦ ﺗﺄﺗﻲ هذه اﻟﻄّﺎﻗﺔ الهائلة اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﺘﺮك ﺷﻌﺒﻜﻢ ﻗﻂّ ﯾﺴﺘﺴﻠﻢ وﯾﺒﻘﻰ ﻣُﻠﻘًﻰ ﻋﻠﻰ اﻷرض، ﺑﻼ رﺟﺎء. أﻧﺘﻢ ﺑﻠﺪ ﻣﺘﻨﻮّع، وﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻜﻮّﻧﺔٌ ﻣﻦ ﺟﻤﺎﻋﺎت، ﻟﻜﻦْ ﻣﻮﺣّﺪ ﺑﻠﻐﺔ واﺣﺪة: ﻻ أﺷﯿﺮ ﻓﻘﻂ إﻟﻰ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﯿّﺔ اﻟﻠﺒﻨﺎﻧﯿّﺔ اﻟتي ﺗﺘﺤﺪّﺛﻮن بها، ﺑﻞ أﺷﯿﺮ ﺑﺼﻮرة ﺧﺎﺻّﺔ إﻟﻰ ﻟﻐﺔ اﻟﺮّﺟﺎء اﻟﺘﻲ ﺳﻤﺤﺖ ﻟﻜﻢ داﺋماً ﺑﺄن ﺗﺒﺪأوا ﻣﻦ ﺟﺪﯾﺪ».
وأشار الى أنّه «ﯾﺒﺪو أن ﻧﻮﻋﺎً ﻣﻦ اﻟﺘّﺸﺎؤم واﻟﺸّﻌﻮر ﺑﺎﻟﻌﺠﺰ ﻗﺪ ﺳَﺎد ﺣﻮﻟﻨﺎ، ﻓﻲ ﻛﻞّ أﻧﺤﺎء اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺗﻘﺮﯾﺒﺎً»، وقال: «أﻧﺘﻢ ﻋﺎﻧَﯿﺘﻢ اﻟﻜﺜﯿﺮ ﻣﻦ ﺗﺪاﻋﯿﺎت اﻗﺘﺼﺎد ﻗﺎﺗﻞ (…) وﻣﻦ ﻋﺪم اﻻﺳﺘﻘﺮار اﻟﻌﺎﻟﻤﻲ اﻟﺬي ﺧﻠّﻒ آﺛﺎرًا ﻣﺪﻣّﺮة ﻓﻲ اﻟﻤﺸﺮق أﯾﻀﺎً، وﻣﻦ اﻟﺘّﺸﺪّد وﺗﺼﺎدم الهويات وﻣﻦ اﻟﻨّﺰاﻋﺎت، ﻟﻜﻨّﻜﻢ أردﺗﻢ وﻋﺮﻓﺘﻢ داﺋﻤﺎً أن ﺗﺒﺪأوا ﻣﻦ ﺟﺪﯾﺪ».
وشدّد على انه «ﯾﻤﻜﻦ أن ﯾﻔﺘﺨﺮ ﻟﺒﻨﺎن ﺑﻤﺠﺘﻤﻊ ﻣﺪﻧﻲّ ﻧﺎﺑﺾ ﺑﺎﻟﺤﯿﺎة (…) وأﺷﺠّﻌﻜﻢ ﻋﻠﻰ أﻻّ ﺗﻨﻔﺼﻠﻮا أﺑﺪاً ﻋﻦ ﺷﻌﺒﻜﻢ، وأن ﺗﻀﻌﻮا أﻧﻔﺴﻜﻢ ﻓﻲ ﺧﺪﻣﺔ ﺷﻌﺒﻜﻢ، اﻟﻐﻨﻲّ ﺑﺘﻨﻮّعه، ﺑﺎﻻﻟﺘﺰام واﻟﺘّﻔﺎﻧﻲ. وﻟَﯿﺖ إرادة اﻟﺤﯿﺎة واﻟﻨّﻤﻮّ ﻣﻌﺎً، ﺷﻌﺒﺎً واﺣداً، ﺗﺠﻌﻞ ﻣﻦ ﻛﻞّ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺻﻮتاً واﺣﺪاً ﻓﻲ ﺳﯿﻤﻔﻮﻧﯿّﺔ ﻣﺘﻌﺪّدة اﻷﺻﻮات».
وأوضح «أن اﻟﻤﯿﺰة اﻟﺜّﺎﻧﯿﺔ ﻟﻔﺎﻋﻠﻲ اﻟﺴّﻼم انهم ﻻ ﯾﻌﺮﻓﻮن ﻓﻘﻂ اﻟﺒﺪء ﻣﻦ ﺟﺪﯾﺪ، ﺑﻞ ﯾﻔﻌﻠﻮن ذﻟﻚ ﺑﺼﻮرة ﺧﺎﺻّﺔ ﺑﻄﺮﯾﻖ اﻟﻤﺼﺎﻟﺤﺔ الشاقّ»، مضيفاً «اﻟﺤﻘﯿﻘﺔ واﻟﻤﺼﺎﻟﺤﺔ ﺗﻨﻤﻮان داﺋﻤﺎً وﻓﻘﻂ ﻣﻌﺎً: ﺳﻮاء ﻓﻲ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ، أو ﺑﯿﻦ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ واﻟﻤﻜﻮّﻧﺎت اﻟﻤﺘﻌﺪّدة ﻓﻲ ﺑﻠﺪٍ ﻣﺎ، أو ﺑﯿﻦ اﻟﺒﻠﺪان اﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ (…) وﻻ ﺗﻮﻟﺪ ﺛﻘﺎﻓﺔ اﻟﻤﺼﺎﻟﺤﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﺎﻋﺪة ﻓﻘﻂ، وﻣﻦ اﺳﺘﻌﺪاد اﻟﺒﻌﺾ وﺷﺠﺎعتهم، ﺑﻞ ﺗﺤﺘﺎج إﻟﻰ اﻟﺴّﻠُﻄﺎت واﻟﻤﺆﺳّﺴﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺘﺮف ﺑﺄنّ اﻟﺨﯿﺮ اﻟﻌﺎم هو ﻓﻮق ﺧﯿﺮ اﻷطﺮاف. واﻟﺨﯿﺮ اﻟﻌﺎم هو أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮع ﻣﺼﺎﻟﺢ ﻛﺜﯿﺮة: إنه ﯾﻘﺮّب أهداف اﻟﺠﻤﯿﻊ ﺑﻘﺪر اﻟﻤﺴﺘﻄﺎع وﯾﺪﻓﻊ اﻟﺠﻤﯿﻊ ﻓﻲ اﺗّﺠﺎه واﺣﺪ ﻟﯿُﺤﻘّﻘﻮا أﻛﺜﺮ ﻣﻤّﺎ ﻟﻮ اﺳﺘﻤﺮّ ﻛﻞّ ﻓﺮدٍ وحده». وتابع: «اﻟﺴّﻼم هو أن ﻧﻌﺮف أن ﻧﻌﯿﺶ ﻣﻌًﺎ، ﻓﻲ وَﺣﺪة وﺷﺮﻛﺔ، ﻣﺘﺼﺎﻟﺤﯿﻦ ﺑﻌﻀﻨﺎ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ (…) ﻣﻦ أﺟﻞ ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ ﻣﺸﺘﺮك».
لبنان في حضرة البابا
وابتداءً من الـ 15:45 دقيقة، موعد وصول «الزائر الأبيض» إلى مطار رفيق الحريري الدولي، أصبحتْ الساعةُ اللبنانيةُ مضبوطةً على توقيتِ زيارة البابا المدجَّجةِ برمزياتٍ تطلّ على خصوصياتٍ للواقع اللبناني لا تنفكّ لائحتها تتّسع.
فالمحطةُ البابويةُ التي افتتُحت بـ 21 طلقةً مدفعيةً ترحيباً، بدت أقرب إلى «وقتٍ مستقطع» نافستْ خلالَه أجراسُ الكنائس التي دُقّت حاملةً «هدير الفرح» طبولَ الحرب التي تَقرعها إسرائيل وتَطرق باب «بلاد الأرز». والزيارة التي اختارَ لها البابا شعارَ «طوبى لفاعلي السلام» تَعكس برسالتها الجوهرية، كما حدّدها الفاتيكان لجهة «مواساة الشعب اللبناني وتشجيع الحوار والمصالحة والتناغم بين جميع الطوائف»، أهمّيتَها المفصلية رمزياً ومعنوياً وسياسياً.
وليس عابراً أن يأتي ما يَحمله البابا من تثبيتٍ لدورِ بلد التعايش في لحظةٍ حَرِجَة يمرّ بها الوطن الصغير محاطاً بالمخاطر الأعلى وبـ «ويلاتٍ» يَكثر التحذيرُ من أنها قد تتوالى بعد مغادرته. ولا تقلّ دلالةً الحفاوةُ الاستثنائيةُ في ملاقاةِ الضيف «فوق العادي» الذي رافقتْ محطاتِه من المطار إلى قصر بعبدا مظلةٌ رسميةُ جامِعة وعلى أعلى مستوى، واحتضانٌ شعبي كبير سيتدحرج تباعاً – وسط عطلة رسمية أعُلنت ليومين – ليبلغ ذروتَه مع «الزحف البشري» لأكثر من 120 ألف شخص إلى الواجهة البحرية لبيروت للمشاركة في القداس الذي يترأسه البابا (الثلاثاء) قبل مغادرته «بلاد الأرز» التي وصل إليها آتياً من تركيا في أول جولة خارجية له في حبريته.
والبابا الذي شمل نشاطَه فور وصوله لقاءاتٍ في القصر الجمهوري مع الرؤساء عون ونبيه بري ونواف سلام ثم مع السلطات وممثّلي المجتمع المدني والسلك الدبلوماسي، سيطلّ من خلال برنامج زيارته الحافل في اليومين المقبلين على المَعاني الرئيسية للبنان كما يراه الفاتيكان وعلى مواجعه وفواجعه، في ضوء تَقَلُّبه منذ أكثر من 6 أعوام «على جمر» أزمات مالية ومعيشية وكوارث ليس أقلّها انفجار مرفأ بيروت (2020) وصولاً لحرب خريف 2024.
وإذ كان الترقب يسود لما سيُطلقه رأسُ الكنيسة الكاثوليكية من مواقف قد تُبَلْوِر أبعادَ شِعار «السلام» الذي يَرفعه والذي يَكتسب في الوطن الصغير دلالاتٍ استثنائيةً، هو الذي يقيم في «فوهة حرب» مرشحة للاندلاع من جديد بين أسبوع وآخر، فقد بدا من الصعب «قياسُ» الأثر السياسي لمظلّة الرعاية للبنان التي ستوفّرها الزيارة البابوبة انطلاقاً مما للفاتيكان من تأثير دبلوماسي وسياسي ومعنوي وروحي وإن عبر «القوة الناعمة».
وفي حين يرتكز هذا الأثَر السياسي على رَصْدِ مفاعيل الزيارة أولاً على صعيد لجْم ما تحوكه إسرائيل للبنان و«الموصول» حُكْماً بمآلاتِ ملف سلاح «حزب الله»، وثانياً على مستوى إنتاج دينامية داخلية تكون كفيلة بتأمين تقاطعاتٍ جامعة «تعطّل» لغم السلاح قبل أن ينفجر بالجميع، فإنّ دون مثل هذا التوقع تعقيداتٌ هائلة سواء بفعل المؤشرات إلى أن قرار تل أبيب بالتصعيد تجاه «بلاد الأرز» اتُّخذ ولا عودة عنه، أو نتيجة الإشارات الشديدة السلبية من الحزب بإزاء مصير ترسانته ورفْضه أي أُطُرٍ لتفكيكها من ضمن مسارِ تنفيذي وضعتْه الحكومة اللبنانية، أو في سياقٍ مبادراتٍ خارجية يُحبطها بخلفيةٍ إيرانية غير خافية.
واستحضرتْ أوساط سياسية لمناسبة زيارة البابا، التحولات العميقة التي أسست لها محطة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في بيروت (1997) على شكل «رياحِ تغييرٍ» تسلّلتْ من خلف «قبضة» نظام الوصاية السوري آنذاك و«بَلْسَمَتْ» إحباطاً كان ظاهِرُه الطاغي مسيحياً، بعدما وفّرت تلك الزيارة منصةَ استنهاضٍ معنوي – روحي – سياسي اكتملتْ «سيبتُه» الوطنية تباعاً وصولاً إلى «استقلال 2005».
وإذا كان إحباطُ التسعينات طُوي بوهج تأثيراتِ زيارة يوحنا بولس الثاني، فإنّ البابا الحالي حطّ بعد نحو 3 عقود في وطنٍ يجد نفسه أسيرَ محاولاتٍ مستمرة لـ «إحباط» مسيرة استعادة الدولة احتكارها للسلاح، وهو الاسمُ الحَركي لقضية سلاح «حزب الله» الذي لن يتناوله ليو بالتأكيد مباشرةً ولا من باب اصطفافيّ لم يألفه الفاتيكان، وإن كان ناشَدَ قبيل انتقاله الى تركيا رداً على سؤال عن الحزب وإسرائيل الجميعَ أن يتخلوا عن استخدام السلاح لحلّ المشاكل مؤكداً أنه «يجب تشجيع الشعوب كافة على السعي من أجل السلام والبحث عن العدالة».
وفي حين انطبع يومُ الاستقبال الشعبي للزائر الكبير بمشاركةِ «حزب الله» عبر كشافة المهدي التي واكبتْ البابا خلال مروره على طريق المطار، حيث رَفَعَ نحو 3 آلاف من أعضائها أعلام لبنان والفاتيكان، فإن دوائرَ متابعة اعتبرتْ أن تَفاعُل الحزب مع الزيارة في الشكل جاء بخلفيةِ الرسالة الاستباقية التي وجّهها إلى البابا عشية وصوله وثبّثت سرديته لجهة حيثيات التمسك بسلاحه تحت عنوان «الوقوف مع جيشنا وشعبنا لمواجهة أيّ عدوان أو احتلال لأرضنا وبلدنا».
ولم يكن عابراً أن تتظهّر قبيل وصول البابا وبسبب رسالة «حزب الله» خطوط التماس السياسية بين «حزب الله» وخصومه في لبنان ولا سيما «القوات اللبنانية» التي تولت الردّ القاسي على الحزب «ومجموعة المغالطات التي تضمنّتها رسالته»، مؤكدة «أنّ معاناة اللبنانيين ناتجة أولا وأخيراً عن سلاح الحزب الخارج عن الشرعية، وسياساته التي ربطت لبنان بمحاور خارجية، ومنعت قيام دولة فعلية قادرة على ترسيخ الأمن الأمان والاستقرار وتحقيق الازدهار»، وواصفة الحزب بأنه «قوة مسلّحة مرتبطة بمشروع إيراني إقليمي لا علاقة له بلبنان وشعبه».
وكان ليو الرابع عشر، وهو رابع بابا يزور لبنان بعد بولس السادس (توقف في مطار بيروت لأقل من ساعة في 1964)، ويوحنا بولس الثاني وبنيديكتوس السادس عشر (2012)، وصل الى مطار رفيق الحريري الدولي عصراً حيث أقيمت له مراسم استقبال رسمي في حضور الرؤساء الثلاثة وكبار الشخصيات وسط إجراءات أمنية وتنظيمية مشدّدة وإطلاق المدفعية طلقات الترحيب والسفن الراسية في المرفأ أبواقَها احتفاءً.
وفيما رافقَت طائرتان حربيتان تابعتان للجيش الطائرة البابوية عند دخولها الأجواء اللبنانية، قدّم طفلان من مركز سرطان الأطفال باقة ورد وخبزاً وملحاً وتراباً من لبنان إلى البابا فور وصوله إلى المطار، وذلك في تقليد رمزي.
وفي قصر بعبدا، ارتسمتْ لوحةٌ مزجت بين الحفاوة والأناقة والفخامة بدا معها لبنان وكأنه استعاد ألقه… من الدبكة التي زفّت البابا على المدخل ونثر الأرز بينما كان يستقبل الـ «بابا موبيل»، إلى العرض الضوئي بتقنية الليزر الذي ظهرت خلاله صورة لليو إلى جانب الأرزة اللبنانية، تحوط بهما حمامات السلام وشعار دولة الفاتيكان في مشهدية صفّق لها البابا نفسه.
«زيارة السلام» تنافس وهج الحرب «الآتية» .






