دأت يوم الجمعة جولةٌ لوفدٍ أميركي، يقوده وكيل وزارة الخزانة لشؤون مكافحة الإرهاب والاستخبارات المالية جون هيرلي، بهدف العمل مع “عدد من الشركاء الرئيسيين” على تنفيذ حملة “الضغوط القصوى”، التي تقوم بها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مواجهة إيران. الجولة ستشمل بيروت إلى جانب كلٍّ من الإمارات وتركيا وإسرائيل، على أن تتركّز على تنسيق جهود العواصم الأربع في حرمان “طهران ووكلائها” من الوصول إلى الموارد الماليّة، وفقاً لما أعلنته وزارة الخزانة في بيانها أمس.
على المستوى اللبناني، ستتقاطع وتتكامل هذه الضغوط الماليّة مع الجهد المبذول لمنع إعادة تسليح حزب الله، وإعادة التفاوض على مصير سلاحه. فتجفيف منابع التمويل يفضي تلقائياً إلى تقليص هامش الحركة الميدانيّة، ويزيد من قدر التنازلات التي يمكن أن يقدمها الحزب بشأن دوره. غير أنّ الجولة نفسها تندرج في سياق أكبر من الملف اللبناني وحده، لتطال كامل شبكات التمويل الإيرانيّة الإقليميّة. كما تصب في سياق تجاذبٍ وتفاوضٍ سيعيد تحديد الدور الإيراني في المنطقة. وبطبيعة الحال، ثمّة تداخل لا يمكن تجاهله بين البحث في دور إيران الإقليمي، والبت بمستقبل الحزب محلياً.
أهميّة التوقيت
تأتي زيارة هيرلي إلى المنطقة بعد قرابة شهر، من إعادة تفعيل العقوبات الأمميّة على طهران، ثم فرض الاتحاد الأوروبي سلسلة من العقوبات التي استهدفت أصول شخصيّات وكيانات إيرانيّة، فضلاً عن حظرها أنشطة ماليّة وتجاريّة إيرانيّة تشمل النفط والغاز والمنتجات البتروكيميائيّة. كما جمّدت أصول البنك المركزي الإيراني، وعدد من مصارف البلاد الكبرى، وحظرت دخول طائرات الشحن الإيرانيّة المطارات الأوروبيّة.
ولتوقيت جولة هيرلي أهميّة خاصّة، ينبغي التوقّف عندها. فإعادة فرض العقوبات الأمميّة والأوروبيّة، التي تتجاوز بنطاقها تلك المفروضة أساساً، أعطت وزارة الخزانة الأميركيّة أدوات تنفيذيّة جديدة، لتطويق الثغرات التي كانت تسمح لإيران بالالتفاف على العقوبات الغربيّة. ومع العقوبات الأمميّة، بات خرق القيود المفروضة على إيران ينطوي على مخاطر قانونيّة دوليّة، وهذا ما يرفع كلفة استمرار شبكات الالتفاف على العقوبات.
ما ستوفّره زيارة هيرلي، هو ضمان آليّات التنسيق العمليّاتي والمخابراتي السريع، لمشاركة المعلومات المتوفرة عن العمليّات التي تعتبرها واشنطن “تبييضاً لأموال” طهران، بما يشمل أعمال ناقلات النفط الإيراني وشبكات تمويل الأذرع العسكريّة. كما يفترض أن تضع الجولة الضغط السياسي اللازم، لضمان امتثال شركاء واشنطن لقواعد الفحص المُشدّد، الكفيل بكشف هذه الأنشطة، ثم الحد منها. وسيكون من ضمن هذه الآليّات حتماً التعاون لمراقبة واحتجاز ناقلات النفط، أو ملاحقة الوسطاء التجاريين الذين يحاولون إخفاء مصادر النفط الآتي من إيران.
أربع عواصم… أربعة أدوار
لوجهة هيرلي، والعواصم التي سيزورها، رمزيّتها أيضاً. فتل أبيب هي الشريك العمليّاتي الأوّل للإدارة الأميركيّة، في مسار تفكيك شبكات طهران في المنطقة، وهذا ما يجعلها القاعدة الاستخباريّة الأكثر نشاطاً وفعاليّة في التعاون مع واشنطن بهذا المجال. وبيروت، على المقلب الآخر، تمثّل الوجهة الأهم للتمويل الذي تخصّصه طهران لحلفائها في المنطقة، حيث تنتظر وزارة الخزانة المزيد من الخطوات من جانب لبنان لتطويق شبكات التمويل هذه.
أمّا تركيا والإمارات، فتمثّلان المراكز الماليّة واللوجستيّة التي يمر عبرها جزء كبير من التجارة والعمليّات النقديّة الإقليميّة، وهو ما يجعل الدولتين في طليعة الساحات التي تسعى طهران لاستعمالها للتهرّب من القيود المفروضة عليها. بالنسبة لطهران، تشكّل الساحتان بوابة أساسيّة للعمل التجاري، سواء على نحوٍ معلن، أو عبر شركات واجهة.
وفي الوقت نفسه، تتمتّع الدولتان بشراكة أمنيّة وسياسيّة واقتصاديّة خاصّة مع واشنطن، كما تطمحان للعب أدوار إقليميّة مركزيّة على المستوى الاقتصادي والمالي. ولهذا السبب، تراهن واشنطن على جدوى الضغط على الدولتين، من أجل تحقيق المزيد من التقدّم في تطويق أعمال إيران الماليّة في المنطقة. مع الإشارة إلى أنّ الدور المالي يطغى على نشاط الإمارات الإقليمي، في حين يطغى الدور التجاري واللوجستي على نشاط تركيا، وهذا ما يعطي بُعداً خاصّة لزيارة هيرلي لكلّ من الدولتين.
خلفيّة هيرلي والمطلوب من لبنان
يمتلك هيرلي خلفيّة عسكريّة؛ إذ تدرّج لمدة خمس سنوات في رتب الجيش الأميركي قبل أن ينتقل للعمل في القطاع الخاص المالي. الآراء التي أبداها، بعد تعيينه في منصبه الحالي، تركّزت على جانبين:
أولاً، يبدي هيرلي حساسيّة مفرطة على الأنظمة الماليّة الأجنبيّة غير الشفّافة، التي تفتح المجال أمام استخدام خصوم واشنطن النظام “المدولر”، هرباً من العقوبات. وهو، بالرغم من تركيزه على دور العقوبات التي تفرضها بلاده، يضع أهميّة مضاعفة لتحسين قواعد الامتثال ومكافحة تبييض الأموال، التي تطبقها الأنظمة الماليّة الأجنبيّة، وهذا ما يقلّص من عبء المراقبة المُلقى على بلاده. ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم تركيز هيرلي على الضغط على الإمارات وتركيا، بوصفه جزءاً من سياسة “الضغوط القصوى” التي تمارسها واشنطن في وجه طهران.
ثانياُ، يعتقد هيرلي أنّ التطوّر التقني، خصوصاً في مجال الذكاء الاصطناعي، بات يفتح آفاقاً جديدة أمام آليّات حديثة لمراقبة العمليّات الماليّة على المستوى العالمي، وهو ما سيقيد من قدرة الخصوم على التحايل والالتفاف على العقوبات الأميركية. مع الإشارة إلى أنّ مرور التحويلات “المدولرة” عبر المصارف الأميركيّة الوسيطة في واشنطن، يعطي أميركا الولوج إلى بيانات هذه التحويلات، في حين أنّ أنظمة الذكاء الاصطناعي ستسمح بفرض رقابة مضاعفة على أنماط التحويل المشبوهة التي تحاول إخفاء غايتها الفعليّة.
أمّا بالنسبة إلى لبنان، فمن المرتقب أن تستكمل الزيارة الضغط باتجاه الأجندة التي تتبناها وزارة الخزانة؛ إذ ستواصل الوزارة الضغط باتجاه تحقيق كافة التوصيات التي وضعتها مجموعة العمل المالي، ومنها إقفال المنافذ المتاحة خارج النظام المالي، لتبييض الأموال، وتلك التي تتصل بتجارة المعادن والأحجار الثمينة والتجارة الدوليّة. كما ستواصل الضغط لتضييق نطاق الاقتصاد النقدي، عبر توسعة الخدمات المصرفيّة التي يمكن تقديمها ضمن النظام المالي الشرعي. أمّا على مستوى مؤسسة القرض الحسن، فلا تزال وزارة الخزانة تطالب بإجراءات أوضح لمعالجة هذه الظاهرة، في الوقت الذي يتفادى كلّ من مصرف لبنان ووزارة الماليّة تحمّل عبء التعامل مع هذه القضيّة.
جولة وزارة الخزانة الأميركيّة: تمويل إيران تحت المجهر .




