جنوب لبنان والانتخابات المقبلة: صراع النفوذ لا المقاعد

بدأت عجلة الانتخابات النيابية تدور جنوبًا، وإن بوتيرة منخفضة نسبيًا، على أن يُتوقع أن تشتدّ حماوتها مع مطلع العام الجديد. انتخابات 2026 النيابية تبدو حتى الآن من أكثر الاستحقاقات سخونةً واختلافًا، إذ لم تشهدها البلاد حتى في المراحل التي كانت تُجرى فيها الانتخابات في زمن الإقطاع السياسي.

فالصراع اليوم لا يقتصر على مقعد نيابي في الجنوب، بل يتعدّاه إلى معركة من يمسك بالزمام النيابي والسياسي للمنطقة، في مواجهة حلف ثنائي حركة “أمل” و “حزب اللّه”. والسؤال الأبرز: هل تتمكّن المعارضة الجنوبية من استثمار الفرصة المتاحة اليوم، أم أن تشتتها وانقسامها سيؤديان إلى خسارة ما تصفه بـ “الفرصة الذهبية” في تاريخها السياسي؟

لطالما كانت المعارضة الجنوبية طامحة إلى السلطة منذ زمن الانتداب حتى اليوم، إلّا أنها لم تنجح يومًا في تحقيق مكاسب ملموسة، رغم تمسّكها بالمحاولة وعدم اليأس. فقد حملت مشاريع تغييرية، وخاضت الاستحقاقات الانتخابية ببرامج قابلة للتنفيذ، في مقابل شعارات براقة اعتمدتها السلطة. والدليل على ذلك، أن التنمية المتوازنة في الجنوب تكاد تكون شبه معدومة، فيما لا يظهر تعبيد الطرقات إلّا كلّ ست سنوات، أو بعبارة أدق في مواسم “الخدمات الانتخابية”. أمّا أبسط مقومات الحياة، من كهرباء ومياه، فلا تُعالج إلّا على عتبة الانتخابات.

أمام هذا الواقع، أصيب المواطن باليأس، وبدأ ينفر من الطبقة السياسية، لكنه في المقابل، لم يمارس حقه الانتخابي على نحو يغيّر واقعه. فبقيت الوجوه النيابية الجنوبية على حالها، حتى أن الحرب غيّرت معالم القرى الجنوبية، فيما لم تغيّر الانتخابات معالم التمثيل النيابي.

اليوم، يبدو المشهد مختلفًا إلى حدّ كبير. فالتكتيكات الانتخابية تغيّرت، وبدأ كل من ثنائي حركة “أمل” و “حزب اللّه” يشعر بخطورة المرحلة ومتغيّراتها الدقيقة، التي قد تصبّ في مصلحة قوى المعارضة الجنوبية لدخول الندوة البرلمانية، لا سيّما أن خطاب هذه القوى يرتكز على التنمية وإعادة الإعمار، منطلقًا من وجع الناس وحاجاتهم، الأمر الذي يزعج “الثنائي”.

وفي هذا السياق، بدأ “الثنائي” بإعادة ترتيب بيته الداخلي، لا سيّما حركة “أمل” التي كلّفت مسؤول مكتبها السياسي جميل حايك بإدارة العملية الانتخابية في الجنوب، في ظلّ تراجع شعبيتها ووجود أجنحة متعدّدة داخلها.

ووفق أوساط متابِعة، فإن حالة استياء شديدة تسود داخل الحركة من عدد كبير من رؤساء البلديات الذين جاءت بهم، وغالبيتهم من أصحاب رؤوس الأموال، بهدف إحداث نهضة إنمائية تُترجم انتخابيًا، إلّا أن تصرفات بعضهم أضرّت بالحركة بدل أن تعزز حضورها الشعبي.

ولا تستبعد هذه الأوساط إجراء تغييرات جذرية تخدم المعركة الانتخابية، لا سيّما في ما يتعلّق بالصوت التفضيلي، الذي يُعدّ “مربط الفرس” في هذا الاستحقاق. فالصوت التفضيلي يُشكّل المعركة الأضخم انتخابيًا، حيث يسعى “حزب اللّه” إليه لتأكيد أن شعبيته لم تتراجع بعد الحرب، فيما تريده حركة “أمل” لتثبيت حضورها الشعبي، ما يعني أن الصراع على الأوزان الشعبية بين الطرفين سيكون حاضرًا بقوة.

لكن على أرض الواقع، يبرز السؤال الأهم: أين هو الإنماء؟ ولماذا غاب طوال هذه السنوات؟ وماذا عن الخدمات التي يُفترض أن تصل إلى الناس، لا سيّما أن الجنوبيين بعد الحرب فقدوا كل شيء، وتركوا لمصير مجهول؟

لقد بدّلت الحرب كل تفاصيل الجنوب، والجميع يطمح إلى تبدّل الواقع السياسي ليصبح أكثر ديمقراطية، وفق خطاب “المعارضة الجنوبية الوطنية” كما تُسمّي نفسها، الساعية إلى لعب دور مرحلي في هذه المرحلة الدقيقة من إعادة تكوين تاريخ الجنوب.

إذاً، تتجه الأنظار إلى الانتخابات المقبلة في الجنوب، حيث قد تُعاد معها صياغة البيت السياسي الداخلي وتوازناته. فأين تقف المعارضة الجنوبية من هذه التوازنات؟ وهل تملك حظوظًا فعلية في هذه الدورة؟ وما هو دور الشباب فيها؟

يجيب الناشط السياسي حسين غندور عن هذه الأسئلة بكلمة واحدة: “نعمل لحماية الجنوب والحفاظ عليه”. ويؤكد أن المعارضة اليوم لا تخوض معركة الانتخابات كغاية بحدّ ذاتها، بل كوسيلة للحفاظ على جنوب لبنان، وحمايته، وإعادة نهوضه وإعماره.

ويضيف غندور: “هناك خطر وجودي يتهدّد الجنوب، وكلّنا معنيّون بحمايته بغض النظر عن خلافاتنا السياسية. نحن بحاجة اليوم إلى خطاب سياسي حكيم”.

وتفتقد العديد من قرى الجنوب أبسط مقوّمات الإنماء: طرقات محفرة، شبكات مياه شرب مقطوعة، بنى كهرباء مهترئة، وغياب شبه تام للقطاع الصناعي، فلا مصانع ولا استثمارات للمغتربين تحرّك العجلة الاقتصادية الراكدة وتوفر فرص عمل للشباب. ويشير غندور إلى أن “الاستثمار جزء أساسي من إنماء الجنوب، ومن أولوياتنا لإعادة قوته وازدهاره”.

في المقابل، تسعى المعارضة الجنوبية إلى نسج خطاب سياسي دقيق لفرض حضورها الشعبي، لعلّها تنجح في تغيير المعادلة الجنوبية، إذ ترى أن الانتخابات المقبلة مختلفة، وتستوجب ولادة حالة سياسية جديدة تُحدث خرقًا في الخطاب السائد.

وفي هذا الإطار، يبرز ملف النبطية، التي لم تحظَ بإعفاءات أو عفو ضريبي كما باقي قرى الجنوب، رغم أنها نالت نصيبًا وافرًا من الدمار، ما أثار استياء أبنائها. ويقول غندور: “كان يجب أن يكون هناك ضغط نيابي أكبر لإعفاء النبطية، لكن ذلك لم يحصل”.

وقد ترسم الانتخابات المقبلة، في حال جرت، خارطة جديدة للجنوب، رغم أن المعارضة لا تستبعد تأجيلها لأسباب تقنية أو غيرها. ويؤكد غندور أن اللاعب الأبرز في المرحلة المقبلة هو الجيل الشاب والمغترب، لما لهما من دور محوري في نهضة الجنوب إنمائيًا وانتخابيًا واقتصاديًا.

في الخلاصة، الجميع يعدّ العدّة للمعركة الانتخابية. الأحزاب تضبط إيقاع حضورها الشعبي، والحراك الميداني بدأ على الأرض. مجلس الجنوب يستعدّ لضخ أموال في المنطقة، يعتبرها كثيرون أموالًا انتخابية، وسط مخاوف من أن تذهب إلى جيوب من لا يستحقها كما في المرّات السابقة. أما الحزب الشيوعي، فلا يزال حراكه خجولًا، بانتظار تبلور موقعه، سواء إلى جانب “الثنائي” أو في صفوف المعارضة.

الانتخابات جنوبًا لها نكهتها الخاصة، والجميع يسعى لفرض شعبيته على الأرض، ومن سينجح في هذه المعركة، وحدها صناديق الاقتراع ستحدّد المشهد.

جنوب لبنان والانتخابات المقبلة: صراع النفوذ لا المقاعد .

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...