يشهد “التيار الوطني الحر” واحدة من أكثر المراحل التنظيمية تعقيدا في تاريخه الحديث، إذ خرج التنافس بين عدد من مرشحيه إلى العلن، وانتقل من الغرف الحزبية المغلقة إلى الإعلام ومنصّات التواصل، في مشهد يعكس حجم الارتباك الذي يعيشه بعد سلسلة انتكاسات انتخابية وتحولات سياسية كبرى.
ففي البقاع الغربي، تتقدّم الأزمة على خط المنافسة بين النائب الحالي شربل مارون، الذي يجزم بأنه المرشح الرسمي الوحيد، وأنطوان حداد الذي يجول على الفاعليات و”التياريين” مؤكداً أنّ الحزب اعتمده بدلاً من مارون، وأنّ الأخير بات خارج السباق. مشهد مشابه يتكرّر في زحلة بين النائب سليم عون والمرشح إبرهيم الرامي، حيث يقدّم كل منهما نفسه مرشحا محسوما.
ومن البقاع إلى جبل لبنان، تبدو الصورة أكثر تعقيداً. ففي المتن الجنوبي يتنافس النائب السابق حكمت ديب مع فادي بو رحال، بحيث يعلن كلٌّ منهما أنّ الأمر حُسم لمصلحته، فيما تعجز قيادة “التيار” عن وضع حدّ لهذا الاشتباك الصامت. أما في الأشرفية، فالمشهد لا يقلّ توتراً، إذ يرفض النائب نقولا صحناوي وجود الدكتور ناجي حايك مرشّحا ثانيا على اللائحة، ملوّحاً بالانسحاب ما لم تُعَدّ صياغة التشكيلة بما يتناسب مع شروطه.
إلى جزين، حيث يدور التنافس بين سليم الخوري وهكتور حجار (مرشحان عن المقعد الكاثوليكي الوحيد)، وقد بدأت التسريبات تتحدث عن حرب إعلامية شرسة بينهما.
وتدور المعركة الأكبر في جبيل بين وديع عقل وجان جبران، اللذين يدخلان في حرب تسريبات وإشاعات واتهامات عبر منصات محليّة، بحيث لم يعد الخلاف مكتوماً، بل أصبح مادة يومية للبيئة الجبيلية.
وفي عكّار، خرجت الأمور عن السيطرة تماماً بين أسعد درغام والرئيس السابق لاتحاد بلديات الجومة فادي بربر، وتحوّلت الخلافات إلى تراشقٍ علني واتهامات شخصية مباشرة، ما وضع القيادة أمام اختبار حقيقي لمدى قدرتها على ضبط قواعدها.
هذا المشهد يترافق مع نقمة متصاعدة في المتن الشمالي حيال ترشيح منصور فاضل، الذي يراه جزء من القاعدة “مرشّح حزب الله”، نظراً إلى مواقفه المرتفعة السقف تأييدا للحزب، ما يجعله – وفق المعترضين – غير قادر على اختراق بيئة تميل بمعظمها إلى خط سياسي مناقض.
وفي بيروت الثانية، أثار طرح اسم غسان سعود بديلاً من النائب إدغار طرابلسي اعتراضات واسعة، إذ يُعدّ الأخير صلة الوصل بين “التيار” والمدارس الخاصة، وصاحب خطاب معتدل ينسجم مع المزاج البيروتي، بخلاف سعود الذي يشكل تحدياً غير محسوب لحساسية المزاج السني في العاصمة.
هذا التنافس الحاد يطرح سؤالاً أساسياً:
هل ما يجري داخل “التيار الوطني الحر” هو صراع منظّم لضخّ دينامية داخلية واختبار قوة المرشحين في بيئاتهم، أو أنّه مؤشر لفقدان السيطرة وتراجع قدرة القيادة على ضبط قواعدها؟
القراءة السياسية للمشهد تشير إلى أنّ “التيار” يعيش مرحلة إعادة تشكّل بعد خسارة جزء من نفوذه السياسي وتراجع تمثيله النيابي، ما يجعل المعركة الداخلية انعكاساً لصراع الهويات والتيارات داخل الحزب نفسه. فالقيادة التي طالما عُرفت بمركزية القرار، تبدو اليوم أمام تحدي تماسكها الداخلي، خصوصاً مع تنامي أدوار الطامحين ونفوذهم في مناطقهم.
مع ذلك، تؤكد مصادر قيادية في “التيار الوطني الحر” أنّ ما يظهر للرأي العام “هو جزء طبيعي من المنافسة الداخلية، ويحدث في كل الأحزاب، ولا يعني أنّ القيادة فقدت السيطرة”. وتضيف أنّ “عملية اعتماد المرشحين تخضع لإجراءات تنظيمية واضحة، وهي مستمرة، وسيتم الحسم في الوقت المناسب وفق آلية داخلية معتمدة”، مشددة على أنّ “لا خوف من هذا التنافس، بل هو دليل حيوية سياسية”.
في المحصلة بين رواية “الحيوية التنظيمية” التي تقدّمها القيادة، وسردية “التشتت وفقدان الانضباط” التي يروّجها الخصوم، يقف الحزب عند مفترق حساس. فالتنافس الداخلي مشروع، لكن تحوّله إلى نزاعات علنية، وتسريبات، واتهامات شخصية، يعكس أزمة بنيوية تتجاوز أسماء المرشحين إلى عمق صورة “التيار” في الشارع، والمؤكد أنّ الحسم لن يكون سهلاً، وأنّ القيادة أمام اختبار مزدوج: ضبط الشارع الداخلي، والحؤول دون أن تتحول المنافسة إلى انقسام عمودي يهدد وحدته في الانتخابات المقبلة.
ترشيحات على الغارب داخل “التيار”: معارك بلا حَكَم أو حيوية تنافسية؟ .




