بين التّفاوض و”التّصدّي”: ما مصير خطّة الجيش؟

بعد عشرة أيّام من إعلان الرئيس نبيه برّي أنّ “الموفد الأميركي توم بارّاك أبلغ الجانب اللبنانيّ رسميّاً رفض إسرائيل لمقترح أميركيّ يهدف إلى إطلاق مسار تفاوضيّ يبدأ بوقف العمليّات لمدّة شهرين”، أكّد رئيس الجمهوريّة جوزف عون أمس “الاستعداد للتفاوض مع إسرائيل من أجل إنهاء الاحتلال، لكنّ المفاوضات لا تكون من جهة واحدة، بعدما قابلنا الطرف الآخر بمزيد من الاعتداءات”، مُكرّراً بأنّ “شكل التفاوض وزمانه ومكانه تُحدّد لاحقاً”. هكذا نُعي التفاوض، مرحليّاً، من الرئاستين الأولى والثانية، لكن هل تُسهم تطوّرات الجنوب في إبقائه في دائرة الأولويّات؟

 

تؤكّد مصادر موثوقة لـ”أساس” أنّ ملفّ المفاوضات مع إسرائيل واحتمال توسيع لجنة “الميكانيزم” لتولّي التفاوض لم يخترق أسوار الناقورة، حيث النقاشات تدور بشكل أساسيّ حول أمور تقنيّة وعسكريّة مرتبطة بعمل الجيش، والانتهاكات الإسرائيليّة لاتّفاق وقف إطلاق النار. فعليّاً، لا يزال التفاوض قيد النقاشات السياسيّة المغلقة، والعابرة للحدود، التي لم تؤدِّ إلى أيّ نتيجة حتّى الآن، فيما تقدّم واجهة الأحداث القرار “السياسيّ” بتصدّي الجيش اللبناني للاعتداءات الإسرائيليّة.

جريمة بليدا

لم يكن التوغّل الإسرائيلي في بلدة بليدا الأوّل من نوعه منذ توقيع اتّفاق وقف الأعمال العدائيّة في 26 تشرين الثاني 2024. محاضر “الميكانيزم” (اللجنة الخماسيّة المشرفة على تنفيذ اتّفاق وقف الأعمال العدائيّة) وقوّات “اليونيفيل” شاهدة على العديد من التوغّلات، أسفرت عن توسيع نقاط الاحتلال من خمس إلى سبع نقاط، لكنّه بالتأكيد الأكثر إجراميّة لجهة القيام بتصفية المواطن إبراهيم سلامة الذي يعمل داخل مبنى بلديّة تابعة للمؤسّسات الرسميّة للدولة اللبنانيّة.

كان الأمر كافياً لدفع رئاسة الجمهوريّة إلى إطلاق موقف هو الأوّل من نوعه منذ إعلان البيان الاستثنائيّ الذي أعقب لقاء الرؤساء الثلاثة في قصر بعبدا في 18 شباط الماضي، والذي شَهر ورقة المقاومة الدبلوماسيّة من خلال  “التوجّه إلى مجلس الأمن الدوليّ لمطالبته باتّخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة الخروقات الإسرائيليّة وإلزام إسرائيل بالانسحاب الفوريّ، واستكمال العمل والمطالبة، عبر “اللجنة التقنيّة العسكريّة للبنان” و”الآليّة الثلاثية” اللتين نصّ عليهما “إعلان 27 تشرين الثاني 2024″، من أجل تطبيق الإعلان كاملاً، مع تأكيد حقّ لبنان اعتماد كلّ الوسائل لانسحاب العدوّ الإسرائيليّ”.

التّصدّي في “الأراضي المحرّرة”

يأتي الموقف الرئاسيّ “بتكليف قائد الجيش العماد رودولف هيكل تصدّي الجيش لأيّ توغّل إسرائيليّ في الأراضي الجنوبيّة المحرّرة”، لافتاً في الشكل والمضمون:

– في الشكل، صدر عن رئيس الجمهوريّة، بوصفه دستوريّاً “القائد الأعلى للقوّات المسلّحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء”. بالتالي لم تلتئم الحكومة لإعطاء الأمر للجيش “بالتصدّي”، بل صدر القرار مباشرة من رئيس الجمهوريّة.

– في المضمون: كان بيان الرئاسة واضحاً لجهة “التصدّي للخروقات في الأراضي المحرّرة”، بالتزامن مع استكمال تنفيذ خطّة الجيش. هذا يعني فصلاً تامّاً عن النقاط السبع المحتلّة، والشريط العازل، والاعتداءات اليوميّة المرتبطة بالاغتيالات وحركة المسيّرات، التي لا يزال يحكمها، بالنسبة للبنان، “الجهد الدبلوماسيّ”، واتّفاق وقف الأعمال العدائيّة. بعد جريمة بليدا اتّخذ الجيش عدّة إجراءات، من ضمنها إعلان الاستنفار واستحداث مراكز، في محاولة لمنع تكرار ما وصفه بيان قيادة الجيش بـ”العمل الإجراميّ والخرق السافر للسيادة اللبنانيّة”.

رسالة الجيش

في هذا السياق تؤكّد مصادر موثوقة لـ”أساس” أنّ “موقف رئيس الجمهورية غير المسبوق منذ اندلاع الحرب، ثمّ توقيع اتّفاق وقف إطلاق النار، هما أساساً نتاج موقف الجيش. قبل أسابيع أبلغ الجيش أركان السلطة في لبنان وأعضاء “الميكانيزم” والموفدين الدوليّين بصعوبة استمرار الوضع على ما هو عليه، وأنّه سيؤدّي إلى اشتباك حتميّ مع العدوّ الإسرائيليّ، ليس انطلاقاً من القدرات الدفاعيّة العسكريّة لدى الجيش اللبناني، والمعروفة بمحدوديّتها للداخل والخارج، بل لأنّ الوضع لم يعد مقبولاً بما يُشكّل اعتداءً مباشراً على هيبة الجيش والسيادة الوطنيّة واستباحة كرامة اللبنانيّين”.

وفق المعلومات، قبل تصفية عامل بلديّة بليدا، التي تُعدّ جريمة حرب إسرائيليّة موصوفة وجريمة ضدّ الإنسانيّة، كانت الفظاعات الإسرائيليّة بلغت مداها خلال مواكبة الجيش لمواطنين جنوبيّين في “مُهمّة” قطف الزيتون. وكان الجيش أبلغ قيادة “اليونيفيل” والجانب الإسرائيليّ، عبر “الميكانيزم”، حتّى من دون العودة إلى السلطة السياسيّة، بالتصدّي فوراً لأيّ انتهاك وعدم السكوت عن أيّ اعتداء يحصل في بقع وجود الجيش اللبناني، وأمام المدنيّين العزّل. وأرسل الجيش رسالة تهديد واضحة بإسقاط مسيّرات للعدوّ ردّاً على الاعتداء على الجنوبيّين لدى قطافهم الزيتون.

يشير بيان السفارة الأميركيّة في شأن اجتماع “الميكانيزم” الأخير بصورة لافتة إلى هذا الأمر عبر “تأكيد الجنرال جوزف كليرفيلد احترافيّة الجيش اللبناني والتزامه الجديرين بالملاحظة. لقد شاهدته ينفّذ مجموعة واسعة من العمليّات، بدءاً من توفير الحماية لحاصدي الزيتون، وصولاً إلى تنفيذ عمليّات معقّدة لتحديد موقع منشأة تحت الأرض، تفكيكها وتحييدها”.

قرار حرب؟

تقول المصادر: “ما أعلنه الرئيس عون ليس قرار حرب، بل قرار سياسيّ – عسكريّ استراتيجيّ بأنّ الجيش هو الوحيد الملتزم وقف الأعمال العدائيّة، ولم يعد يحتمل عدم التزام باقي الأفرقاء به، بسبب انعكاساته المباشرة على السيادة اللبنانية، وهو ما يطرح علامات استفهام عن مصير المرحلة الأولى من خطّة الجيش في جنوب الليطاني، المفترض أن تنتهي نهاية العام، لأنّ الاعتداءات الإسرائيليّة تعيق إنجاز هذه المرحلة”.

يسهم الموقف الرئاسيّ فعليّاً في نقل التركيز الإعلاميّ إلى الاعتداءات الإسرائيليّة الفاضحة، وعدم قدرة الجيش على تحمّل المزيد من الانتهاكات حتّى في ظلّ الإمكانات المحدودة جدّاً لدى المؤسّسة العسكريّة، ويعكس نقمة رئاسيّة كبيرة على عدم إيفاء الوسيط الأميركي بتعهّداته.

لا يزال الجيش، بتأكيد مطّلعين، يحظى بإشادة واسعة من قبل القيادة العسكريّة والسياسيّة الأميركيّة، وهذا ما يظهر خلافاً لبعض التسريبات من خلال مواقف الموفدين الدوليّين وضبّاط “الميكانيزم”، الذين وحدهم من يقدّم خلاصة للوسطاء الأميركيّين عن عمل الجيش، ومن خلال البيان الأخير لقائد القيادة المركزيّة الأميركيّة الأدميرال براد كوبر الذي أكّد “دعم جهود القوّات المسلّحة اللبنانيّة، التي تعمل بلا كلل لتعزيز الأمن الإقليميّ”.

انزعاج إسرائيليّ

في هذا السياق تؤكّد جهات عسكريّة وسياسيّة أنّ “ثمّة انطباعاً راسخاً راكمته التجربة جنوب الليطاني بأنّ القيادة الإسرائيليّة منزعجة من الاعتراف الأميركيّ بالأداء الاحترافيّ للجيش، والتزامه تنفيذ الخطّة جنوب الليطاني، لأنّ ذلك قد يعيق استباحتها الكاملة للجنوب وكامل لبنان. قيادة الجيش اللبناني قد تسبق الجيش الإسرائيلي نفسه بخطوات إلى الأمام، وتجبره على اتّخاذ قرارات وخطوات قد تغيّر من خطّته الأساسيّة”.

أشار رئيس الجمهوريّة أمس صراحة إلى هذه النقطة عبر القول إنّ “عدم تجاوب إسرائيل مع الدعوات المستمرّة إلى وقف اعتداءاتها يؤكّد أنّ قرارها العدوانيّ خيار أوّل لديها”.

تضيف الجهات: “حتّى إنّ اجتماع “الميكانيزم” الأخير كان بالغ الإيجابيّة، واقتصر دور “المستشارة” مورغان أورتاغوس، كما وصفها بيان السفارة الأميركيّة، على الاستماع وتبادل الحديث المتعلّق بمهمّتها المرتبطة حصراً بكلّ ما له علاقة بالقرارات السياسية لدعم عمل الميكانيزم”.

بين التّفاوض و”التّصدّي”: ما مصير خطّة الجيش؟ .

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...