بيان “الحزب” يُقصي الدولة: عندما يتحوّل الخطاب العسكري إلى قرار سياسي

أعاد «حزب الله»، بكتابه المفتوح إلى الرؤساء الثلاثة، ترتيب المشهد السياسي اللبناني على نحوٍ يعكس إرادة في الحسم خارج الأطر الدستورية، ويؤكد مرة جديدة أن الملفات السيادية الكبرى ما زالت تُدار بعقلية أحادية لا مؤسساتية. فالبيان، الذي جاء بلهجة عالية السقف غير مسبوقة منذ إعلان وقف إطلاق النار، شكّل عمليًا استبدالًا للجواب الرسمي الذي كان يُفترض أن يقدّمه «الحزب» إلى الموفدين حول مسار التفاوض ومسألة حصرية السلاح. وبدلًا من أن يأتي الردّ ضمن نقاشٍ منظم داخل الحكومة أو عبر القنوات المعتمدة للتشاور الوطني، اختار «الحزب» أن يوجّه موقفه عبر كتاب علني إلى الرؤساء الثلاثة، قاطعًا الطريق أمام أي أخذ ورد، ومستعيدًا صلاحية القرار في هكذا ملفات أساسية من رئيس مجلس النواب نبيه بري المفوض من «الثنائي» إدارة الحوار حول القضايا المصيرية.

هذه الخطوة، بما تحمله من رمزية سياسية، لا يمكن فصلها عن التوقيت ولا عن مضمون الرسالة. فهي تمثل في جوهرها انتقالًا من منطق المشاركة إلى منطق الإملاء، إذ جعلت من البيان أداة لفرض موقف نهائي على الدولة، في لحظة كان يُفترض فيها أن يُناقش الملف في مجلس الوزراء حيث تتلاقى المواقف وتُنسَّق السياسات. ومع أن «الحزب» قدّم بيانه بعبارات تتحدث عن «التفاهم الوطني» و«حماية السيادة»، إلا أن الشكل الذي اعتمده يناقض هذه الشعارات عمليًا، إذ ألغى دور المؤسسات المعنية وأقفل الباب أمام أي بحث داخل الحكومة في الخيارات المطروحة، سواء بشأن التفاوض وآليات تثبيت وقف النار أو إدارة العلاقة مع الموفدين الدوليين.

جوهر الإشكالية لا يكمن في الموقف بحد ذاته بل في طريقة إعلانه. فأن يوجّه حزب يمتلك ذراعًا عسكرية رسالة إلى الرؤساء الثلاثة بلغة تقريرية تُنهي النقاش ولا تفتحه، يعني عمليًا تحويل الخطاب السياسي إلى قرار فوقي ملزم، وإخضاع السلطة التنفيذية لأمر واقع جديد. وفي وقت كان رئيس الجمهورية ومعه رئيس الحكومة نواف سلام يسعيان إلى بلورة رؤية مشتركة داخل مجلس الوزراء حيال مسار التفاوض، أتى البيان ليصادر هذا النقاش، وليضع الحكومة أمام معادلة صعبة وهي؛ إما أن تساير خطاب «الحزب» وتغلق ملف التفاوض، أو أن تواجهه سياسيًا بما قد يُفاقم الانقسام الداخلي ويشل قدرتها على إدارة المرحلة المقبلة.

البيان أيضًا يوجّه رسالة مزدوجة إلى الداخل والخارج. إلى الداخل، بأنه لا تفاوض ولا مساومة على ملف السلاح، وأن «الحزب» وحده يحدّد توقيت البحث في الاستراتيجية الدفاعية، في مخالفة واضحة لنص وروح «البيان الوزاري» الذي أقرّ بشكل واضح لا لبس فيه حسم هذه المسائل. وإلى الخارج، بأنه لا مجال للوساطة ولا جدوى من الضغوط، ما يعقد مهمة الموفدين وآخرهم مدير المخابرات المصرية اللواء حسن رشاد الذين سعوا لاستكشاف إمكان تثبيت التهدئة عبر مقاربة سياسية ودبلوماسية. بهذا المعنى، فإن الكتاب تجاوز مفهوم التعبير عن موقف مبدئي، إلى مرحلة إعلان إغلاق لمسار تفاوضي محتمل، وتحويل الملف من نقاش حكومي إلى موقف حزبي مكتمل لا يقبل التعديل.

اللغة العالية في البيان قد تُرضي جمهورًا معينًا، لكنها لا تصنع سياسة وطنية متوازنة. إذ لا يمكن للدولة أن تحمي سيادتها عبر بيانات أحادية تضعها في موقع التابع أمام من يملك السلاح والقرار. فالمسؤولية الوطنية تستدعي أن يُدار النقاش داخل الحكومة، لا عبر رسائل مفتوحة تتجاوزها، وأن تُحدَّد الخيارات الكبرى بقرار توافقي لا بإملاء حزبي يتخذ طابعًا فوقيًا. إن ما تحتاجه البلاد اليوم ليس مزيدًا من المواقف الصدامية، بل مساحة حوار فعلي داخل المؤسسات، تضمن وحدة القرار وتُعيد للدولة هيبتها بوصفها المرجعية الوحيدة في الحرب والسلم، لا مجرد صندوق بريد لخطابات تُكتب خارجها وتُفرض عليها.

بيان “الحزب” يُقصي الدولة: عندما يتحوّل الخطاب العسكري إلى قرار سياسي .

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...