حوّل رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، عبر سلاح المقاطعة ومنع النصاب، الجلسة التشريعية التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى “معركة وجودية” مع الأخير، أراد من خلالها أن “يفرض” عليه وضع ملف قانون الانتخاب على الطاولة، إذا كان المجلس سيضطلع بدوره التشريعي. لكن رئيس المجلس واجه هذه المعركة على طريقته، وخرج “منتصرًا”، بعدما شرّع ما أراد تشريعه، مكرّسًا قواعد لعبة جديدة في معركة النصاب نفسها.
بهذا المعنى، شكّلت الجلسة التشريعية الأخيرة اختبارًا سياسيًا مباشرًا لميزان القوى داخل مجلس النواب، ولقدرة كل طرف على فرض شروطه، في مرحلة شديدة الحساسية داخليًا وإقليميًا، وذلك بمبادرة من المعارضة نفسها، التي أرادت، عبر فتحها باب المواجهة السياسية مع بري ومقاطعة الجلسة، أن تقول له إن قواعد اللعبة قد تغيّرت، وإنه لم يعد قادرًا على “إدارة” مجلس النواب كما اعتاد، أو تهميش من يريد.
لكن النتيجة لم تأتِ وفق تطلعات المعارضة، إذ بدا رئيس مجلس النواب نبيه بري كمن يدير المعركة بهدوء، لا بهدف تسجيل انتصار إعلامي، بل لتكريس معادلة سياسية جديدة داخل البرلمان، عنوانها أن تعطيل الجلسات لم يعد سلاحًا مضمون الفعالية، وأن من يملك إدارة اللعبة الدستورية يملك هامش حركة أوسع من خصومه. فكيف تُقرَأ الجلسة التشريعية من هذه الزاوية، وهل كرّست فعلًا قواعد لعبة جديدة؟
كسر فيتو المقاطعة… أم استنزافه؟
كثيرة هي الرسائل التي انطوت عليها الجلسة التشريعية، والتي يرى كثيرون أنها حُمّلت أكثر مما تحتمل، يوم اختارت المعارضة تحويلها إلى مواجهة “غير محسوبة”، إن صح التعبير. من هنا، تبرز الرسالة الأولى التي حملتها الجلسة، وهي تتصل بسلاح المقاطعة نفسه. فالرهان على منع انعقاد المجلس لم يصمد، لا عدديًا ولا سياسيًا. وكانت النتيجة أن الجلسة عُقدت، والبند الأساسي أُقرّ، ثم رُفعت بعد فقدان النصاب.
وفي حين تحوّلت هذه التفاصيل الإجرائية، عمليًا، إلى جوهر المعركة، يبدو واضحًا أن بري، من خلال إدارة التوقيت وإقفال محضر الجلسة قبل سقوط النصاب، أراد نقل الصراع من الشارع والإعلام إلى أرض الدستور. وهنا، كانت الرسالة واضحة: يمكنكم الانسحاب، لكن ما أُنجز أصبح نافذًا. بهذا المعنى، لم تُكسر المقاطعة فقط، بل جرى تفريغها من مضمونها السياسي، وتحويلها إلى خطوة احتجاجية بلا أثر عملي.
في المقابل، ظهرت المعارضة، وخصوصًا “القوات اللبنانية”، التي كانت “رأس الحربة” في هذه المواجهة، وكأنها راهنت على الضغط المعنوي أكثر من امتلاك أدوات تعطيل حقيقية. فحين لا تنجح المقاطعة في منع انعقاد الجلسة، تتحول من ورقة قوة إلى نقطة ضعف، وتفتح الباب أمام خصومها لاتهامها بالعجز أو بالعزلة، ولا سيما أن “القوات” لمّحت في بعض تصريحاتها إلى أن الأكثرية البرلمانية “في الجيب”، وبالتالي إلى قدرتها على فرض “أجندتها”.
بري يوسّع هامش المناورة
لكن “انتصار” بري لا يبدو شكليًا فقط على خط المواجهة مع “القوات”، إذ حقّق مكسبًا سياسيًا بامتياز، من خلال تمرير بند مرتبط بإعادة إعمار الجنوب، أخرج الجلسة من كونها مواجهة سياسية صِرفة، وأدخلها في إطار “الضرورة الوطنية”، علمًا أن هناك من يردّ إخفاق المعارضة إلى عدم قراءتها هذه النقطة تحديدًا، ولا سيما في ظل وجود توافق وطني على ضرورة تمرير هذا البند في المقام الأول، وهو ما لم تحسبه المعارضة جيدًا.
إضافة إلى ذلك، بدا أن رئيس المجلس لم يتعامل مع الجلسة كحدث منفصل، بل كحلقة في مسار أطول، هدفه تثبيت موقعه كضابط إيقاع البرلمان. فإدارة النصاب، وتحديد ما يُمرَّر ومتى، ثم إنهاء الجلسة عند اللحظة المناسبة، كلها عناصر تعكس قراءة دقيقة لتوازن القوى، ولحدود قدرة الخصوم على التصعيد. ولذلك، خاض بري المواجهة حتى النهاية، على خلاف جلسات سابقة لم يكترث خلالها لسقوط النصاب.
الأهم من كلّ ما سبق، وفق ما يقول العارفون، يبقى أن ما جرى قد يؤسس لسابقة، إذ لم يعد التهديد بالمقاطعة كافيًا لفرض الشروط، وهذا ما يمنح بري هامشًا أوسع في أي استحقاق تشريعي مقبل، خصوصًا في ظل انسداد سياسي عام وغياب توافقات كبرى. بهذا المعنى، يمكن القول إن ما بعد الجلسة ليس كما قبلها، بعدما وجّه بري رسالة مفادها أن قواعد اللعبة البرلمانية قابلة للتعديل، وأن من يُحسن إدارتها يستطيع تجاوز الفيتوات المعطّلة.
من المُبالَغ فيه القول إن بري حقّق انتصارًا “كاسحًا” على المعارضة، ولا سيما أن ظروفًا عدة أسهمت في فوزه بمعركة “النصاب”، وقد لا تتوافر في جلسات أخرى. لكنه، في المقابل، نجح في تسجيل نقطة سياسية وازنة، وضَعَت المعارضة أمام سؤال صعب: هل تواصل الرهان على المقاطعة كسلاح أساسي، أم تعيد النظر في أدواتها داخل المجلس، باعتبار أن المعركة الحقيقية تُخاض داخل القاعة، لا خارجها؟
بري بعد الجلسة التشريعية: هل كرّس قواعد لعبة جديدة؟ .





