السّعوديّة– باكستان– إيران: بن سلمان يعيد رسم موازين قوى المنطقة

ماذا يعني توقيع اتّفاق الدّفاع المُشترك بين المملكة العربيّة السّعوديّة وباكستان؟ ما تأثير ذلكَ على التّحالفات وموازين القوى في الشّرق الأوسط؟ ماذا حمَلَ لقاء وليّ العهد السّعوديّ الأمير محمّد بن سلمان مع أمين عام مجلس الأمن القوميّ الإيرانيّ علي لاريجاني؟ ما علاقة الأخير بما صرّحَ به الشّيخ نعيم قاسم حولَ فتح صفحة جديدة بين الحزب والسّعوديّة؟

وجّهَت المملكة العربيّة السّعوديّة رسالةً من “العِيار الثّقيل” إلى من يعنيهم الأمر في الشّرق الأوسط. ليسَ تفصيلاً عابراً أن يُوقِّعَ وليّ العهد السّعوديّ ورئيس الوزراء الأمير محمّد بن سلمان ورئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف اتّفاقاً للدّفاع المُشترك في هذا التّوقيت الإقليميّ والدّوليّ الدّقيق.

على التّوازي كان الأمير محمّد بن سلمان يستقبل أمين عام مجلس الأمن القوميّ الإيرانيّ علي لاريجاني في قصر اليمامة في الرّياض. وذلكَ بعد اللقاء الذي جمعه مع الرّئيس الإيراني مسعود بزشكيان على هامش القمّتيْن العربيّة والإسلاميّة الاستثنائيّتيْن في العاصمة القطريّة الدّوحة عقب العدوان الإسرائيليّ على قطر. لم تكد تمضي أيّام على الاجتماعات السّعوديّة – الإيرانيّة، حتّى دعا أمين عام “الحزب” إلى فتح ما سمّاه “صفحة جديدة” مع المملكة.

كلام قاسم… من برّي إلى لاريجاني

لم يكُن كلام الشّيخ قاسم من بناتِ أفكاره. إذ تؤكّد معلومات “أساس” أنّ رئيس مجلس النّوّاب نبيه برّي كان قد نصحَ لاريجاني، الذي وصفَ برّي بأنّه “أستاذه” أثناء زيارته الأخيرة إلى بيروت منتصفَ الشّهر الماضي، بضرورة أن تعمَلَ طهران على خطّ الرّياض– حارة حريك. ذلكَ أنّ المملكة تسعى إلى الاستقرار الإقليميّ، وأنّ “الحزبَ” لم يعُد عينه بالانفلاش الإقليميّ بعد الحرب الإسرائيليّة الأخيرة.

إذ إنّ حالة اختلال الاستقرار في المنطقة دفعَت الحوار السّعوديّ– الإيرانيّ قُدماً، خصوصاً بعد الهجوم الإسرائيليّ على إيران في حزيران الماضي، والاعتداء على الدّوحة. كما يأتي تفعيل قنوات التواصل على المستويات الرّفيعة بين الرّياض وطهران في إطار سيّاسة المملكة لخفضِ التصعيد في المنطقة، وتحديداً في منطقة الخليج العربيّ.

هذا ما حاول الإيرانيّون استغلاله، فطلبوا من أمين عام “الحزب” أن يُوّجه رسائل إيجابيّة نحوَ الرّياض. لكنّ المملكة في الوقت عينه تنظر إلى علاقتها مع إيران على أنّها علاقة مؤسّساتيّة قائمة من دولة إلى دولة. وذلكَ على عكس وضع “الحزب” الذي لا يزال مُدرَجاً على لوائح الإرهاب السّعوديّة والخليجيّة.

في الوقتِ عينه تعتبر الرّياض أنّ قنوات التّواصل الرّسميّة مع طهران تلعبُ دوراً محوريّاً في إرساء الاستقرار الإقليميّ، بسبب دور إيران ونفوذها في المنطقة، والذي على الرّغم من تراجعه بشكلٍ دراماتيكيّ، إلّا أنّه لا يزال مؤثّراً في لبنان واليمن والعراق وإن بشكلٍ أقلّ من السّابق.

بالتّالي، إنّ الحوار السّعوديّ – الإيرانيّ لا ينفصل عن رؤية المملكة لتعزيز الأمن الإقليميّ مع الدّول المؤثّرة في الشّرق الأوسط، مثل تركيا وباكستان، التي وقّعت معها اتفاق الدّفاع المُشترك الاستراتيجيّ.

160 رأساً نوويّاً.. سعوديّاً؟

الاتّفاق السّعودي – الباكستانيّ واضحٌ بما لا يقبل التأويل: “إنّ أيّ اعتداء على أحدِ الطرفَيْن يُعَدُّ اعتداءً على الآخر، مع تأكيد أنّ جَميعَ الوسائِل العَسكريّة سَتكونُ متاحة للدّفاعِ المُشترَك”. هذا يعني أنّ التّرسانة النّوويّة الباكستانيّة ستكونُ متاحةً للدّفاع عن المملكة في حال تعرّضِها لأيّ اعتداءٍ من أيّ جهةٍ كانَت. بكلامٍ آخر، يُمكنُ القول إنّ السّعوديّة باتَت تحتَ “مظلّة ردعٍ نوويٍّ” تزيدُ على 160 رأساً نوويّاً للدّفاع عنها.

جديرٌ بالذّكر أنّ تقارير غربيّة عدّة كانت قد تحدّثت سابقاً عن تمويل السّعوديّة للبرنامج العسكريّ النّوويّ في إسلام آباد، إلّا أنّ الرّياض وإسلام آباد نفتا هذه الأنباء. لكنّ المؤكّد أنّ الاتّفاق يشملُ استثماراً سعوديّاً في القدرات العسكريّة الباكستانيّة، التي تشهدُ تطوّراً لافتاً بسبب تبادل الخبرات الباكستانيّة – الصّينيّة، والباكستانيّة – التّركيّة في مجالات صناعة وتطوير الطّائرات المُسيّرة والمُقاتلات والدّفاع الجوّيّ.

أمّا بالنّسبةِ لباكستان، فيُمكنُ اختصارُ الموقَفِ بما عبّر عنه شهباز شريف بعد توقيعِ الاتّفاق: “سنلعبُ دوراً محوريّاً في الدّفاعِ عن أرضِ الحرَميْن”. ويُعزّز هذا الموقف ما أعلنهُ “مؤتمر عُلماء باكستان” على لسان رئيسه العلّامة طاهر أشرفي بقوله إنّ “باكستان الآن أصبحت جزءاً مُهمّاً في الدّفاع عن أرضِ الحَرَميْن الشّريفيْنِ، ولن تألو جهداً في سبيل ذلك، ومن هنا يعلن المؤتمر أن يكونَ يوم الجُمعة يومَ الشُّكرِ لله”.

80 عاماً من العلاقة الاستراتيجيّة

منبعُ هذا الموقف هو النّظرة الباكستانيّة للعلاقة الاستراتيجيّة مع السّعوديّة، التي تمتدُّ إلى أكثر من 8 عقودٍ من الزّمن. من يجيد قراءة الرّسائل السّعوديّة تجاه الحُلفاء، يستطيع أن يستخلِصَ مدى عمقِ العلاقة بين الرّياض وإسلام آباد، خادمَ الحرمَيْن الشريفَيْن الملك سلمان بن عبدالعزيز زارَ باكستان مرّتَيْن، مرّةً بصفتهِ ملكاً، ومرّةً عندما كانَ أميراً للرّياض. وزارَ الملك الرّاحل عبدالله بن عبدالعزيز باكستان 5 مرّاتٍ. وزارها وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان عام 2019.

تدعمُ المملكة باكستان منذ انفصالها عن الهندِ، وتدعمُ موقفَ إسلام آباد من قضيّة كشمير، التي تُعتبر القضيّة المركزيّة للسّياسة الباكستانيّة في صراعها التّاريخيّ مع جارتها الهند.

يُعتبرُ الاتّفاق السّعوديّ – الباكستانيّ بدايةً لتعاونٍ أمنيّ عربيّ – إسلاميّ لصونِ الأمن القوميّ للدّول العربيّة. إذ تشير معلومات “أساس” إلى أنّ دولتَيْن عربيّتَيْن ستُوقّعان اتّفاقاً للدّفاع المُشترك مع باكستان. ولعبَ قائد الجيش الباكستانيّ المشير عاصم منير الدّور الأبرز في صياغةِ الاتّفاقِ بعيداً عن الأضواء. وهو الذي خدمَ سابقاً في الرّياض حين كانَ برتبةِ مقدَّم.

إعادة توازن القوى

لا ينفصلُ ما حصلَ من اعتداءٍ إسرائيليٍّ على الدّوحة الأسبوع الماضي، والهجوم الإسرائيليّ على إيران في حزيران الماضي، عن طيّات الاتّفاق. إذ إنّ التّغوّل الإسرائيليّ في الاعتداء على سيادةِ دُول المنطقة استوجَب أن تكونَ باكستان ضمن استراتيجيات الأمن العربيّ. أظهرت التّصريحات الإسرائيليّة عن باكستان، أثناء جولة القتال مع إيران ووقوفِ إسلام آباد بصفّ طهران،  حجمَ القلق المُتبادل بين تل أبيب وإسلام آباد.

على الرّغم من ذلكَ لا يمكن القول إنّ الاتّفاق هو ردّة فعلٍ آنيّة، بل هو تعبيرٌ عن موقفٍ سعوديٍّ وعربيٍّ بتنويع مصادر القوّة، في ظلّ غِياب السّيطرة الأميركيّة على التفلّت الإسرائيليّ في المنطقة، بخاصّةٍ أنّ السّعوديّة لا تعتبرُ الاتّفاق أداةً للمواجهة على قدرِ ما هو لتثبيت ميزان الرّدعِ في المنطقة وحماية الاستقرار في دُول الخليج العربيّ.

التقطَت “الرّادارات السّعوديّة” المُتغيّرات في الشّرق الأوسط فأعادَت ترتيب التّحالفات وفقَ الحسابات التي تُناسبُ الأمن القوميّ السّعوديّ والخليجيّ. إذ يُعبّر الاتّفاق عن حالة القلق العامّ في المنطقة، ولذا ذهبَت الرّياض نحوَ الاتّجاهات التي تُحقّق الاستقرار من جهةٍ، وتثبّت الجهوزيّة في حال لمَست أيّ تهديدٍ لأمنها من جهةٍ أخرى.

رسائل الاتّفاق

المُتغيّرات التي يشهدُها الشّرق الأوسط بشكلٍ مُتسارِعٍ منذ عمليّة “طوفان الأقصى” في أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، دفعَت الرّياض إلى البحثِ عن شريكٍ أكثر موثوقيّة.

هكذا يُمكنُ استخلاصُ مجموعة رسائل وجّهتها الرّياض بتوقيعها اتّفاق الدّفاع المُشترك مع إسلام آباد:

  • إعادة صياغة تعريف التّحالفات: كانت الرّياض تقول بوضوحٍ وهدوءٍ إنّها تمتلكُ بدائل جاهزة وحاضرة وموثوقة خارج المظلّة الأميركيّة في المنطقة. أكّدت تجارب السّنوات الأخيرة من الاعتداء الحوثيّ على منشأتَيْ “بقيق” و”هجرة خريص” التّابعتَيْن لشركة “آرامكو” عام 2019، وصولاً إلى الاعتداء الإسرائيليّ على العاصمة القطريّة ودُول المنطقة، ضرورة تنويع التّحالفات الدّفاعيّة والأمنيّة والعسكريّة وتعزيزها ضمنَ دول المنطقة.
  • تعزيز الرّدع السّعوديّ والعربيّ: يضعُ الاتّفاق القوّة النّوويّة الباكستانيّة في صفّ المملكة، وهو ما سيؤدّي إلى ترسيخِ توازنٍ يردعُ التّهديدات التي يُمكن أن تتعرّض لها السّعوديّة أو باكستان. ويؤكّد الاتّفاق أنّ الرّياض قادرة على إعادة التّوازن إلى المنطقة في ظلّ تجاوز تل أبيب للخطوط الحمر غير مرّة، وانكفاء الدّور الإيرانيّ بعد سقوطِ نظام بشّار الأسد وضربِ “الحزبِ” في لبنان.
  • إعادة تنشيطِ المشروع العربيّ في المنطقة: أدّى انكفاء المشروع الإيرانيّ وتمدّد مشروع إسرائيل في ظلّ سعيِها إلى تهجير سكّان قطاع غزّة، إلى إيجادِ فرصة لإعادةِ إحياء العمل العربيّ – الإسلاميّ المُشترك. إذ إنّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو لا يُخفي نيّته المُضيّ قُدُماً في ما يُسمّى بـ”إسرائيل الكُبرى” بمعناها الأمنيّ، التي تشملُ لبنان وسوريا والعِراق والأردن وشبهَ جزيرة سيناء المصريّة ومنطقةً واسعةً من شمال السّعوديّة.

لا يُمكن قراءة توقيع الاتّفاق بعيداً عن المشهدِ الدّوليّ المُعقّد، وأبرز ما فيه التعقيدات في العلاقة بين أميركا والهند، الغريم التّقليديّ لباكستان، وإصرار واشنطن على الحِفاظ بل وتعويم إسرائيل لتكون شريكاً وحليفاً أساسيّاً في المنطقة.

القوّة.. والدّبلوماسيّة معاً

تعطي هذه الوقائعُ الاتّفاقَ وقعاً ثقيلاً في عاصمة القرار الأميركيّ، التي تخشى ابتعادَ حلفائها عنها نحوَ الصّين، التي تُعتبر من الحلفاء الأساسيّين لباكستان، ومن أبرز الشّركاء الاقتصاديّين لدول الخليج العربي.

من جهتها، لا تلحظُ المملكة الأسباب الأمنيّة والعسكريّة فقط، بل والأُطر السّياسيّة. إذ لا تزال واشنطن على موقِفها من عنوان “حلّ الدّولتَيْن” للقضيّة الفلسطينيّة، بل إنّ رئيسها دونالد ترامب ذهبَ بعيداً في ما أعلنه أثناء وبعد حملتهِ الرّئاسيّة من نيّة دعم تهجير سكّان غزّة ودعم السّيادة الإسرائيليّة على الضّفّة الغربيّة.

في المُقابل تقودُ السّعوديّة التحالف الدّولي للاعتراف بالدّولة الفلسطينيّة الذي كان آخر فصوله “إعلان نيويورك” في الجمعيّة العامّة للأمم المُتّحدة، التي تبنّت بأكثريّة تاريخيّة مشروعَ القرار الذي يدعم الاعتراف بالدّولة الفلسطينيّة وتأكيد حلّ الدّولتَيْن خياراً وحيداً لإنهاء الصّراع العربيّ – الإسرائيليّ.

هذا يعني أنّ الرّياض تعملُ على خطَّيْن متوازيَيْن:

الأوّل: تعزيز القوّة الرّادعة وتنويع التحالفات الدّفاعيّة.

الثّاني: تعزيز دور الدّبلوماسيّة والسّياسة في تحقيق السّلام في المنطقة تحت عنوان “حلّ الدّولتَيْن”.

يمنحُ التّوازن بين القوّة والسّياسة المملكةَ موقعاً أساسيّاً لا يُمكنُ تجاوزه في إعادة صياغة المشهد في المنطقة، الذي تُعادُ صياغتُهُ منذ اختلال التوازنات بعد السّابع من أكتوبر.

بكلامٍ آخر، وجّهت الرّياض رسالةً إلى تل أبيب وواشنطن مُفادها أنّ المملكة لم تنسحب من مشروع السّلام والاستقرار في المنطقة، لكنّها في الوقت عينه تحملُ أوراق القوّة التي تجعلها تعيد التّوازن إلى الإقليم متى دعت الحاجة، وأنّ أمن الخليج العربيّ هو خطّ أحمر لدى قيادة المملكة لا يُمكن التّهاون في حمايته.

أمّا إسلام آباد فتجدُ بالاتّفاق فرصةً لا تُعوَّض لدخول معادلات المنطقة وتكون لاعباً مركزيّاً بتكاملِ قوّتها النّوويّة مع قوّةٍ تُوفّر لها الرّافعة الاستراتيجيّة اسمها المملكة العربيّة السّعوديّة.

Follow
Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...