الساعة الثامنة إلا ربعًا من صباح السبت 20 كانون الأول 1975، وفيما كان محافظ الشمال قاسم العماد يغادر منزله على طريق الميناء بجانب مستشفى الحسيني برفقة زوجته، وقبل أن يهم بركوب السيارة التي كان يقودها العسكري خالد العلي من حلبا، ظهر أمامهم 3 مسلحين نزلوا من سيارة “مرسيدس 190” كانت متوقفة بجانب الطريق وأمطروا المحافظ بالرصاص، فَخَرّ صريعًا بعد أن اخترقت جسده 20 رصاصة وأصيبت زوجته إصابات قاتلة، لكنها نجت من الموت وبدأت رحلتها مع العذاب. كما أصيبت زوجة الناطور التي صودف وقوفها عند المدخل ونجا السائق بأعجوبة وكان ما زال عند المدخل أيضًا.
ما إن انتشر خبر اغتيال المحافظ، حتى عمت طرابلس حالة من الخوف والرعب وأقفلت المدينة وبدأ يسمع صوت الرصاص.
من هو المحافظ؟
هو قاسم الشيخ تامر العماد من الباروك قضاء الشوف ابن أحد أهم المشايخ اليزبكيين الدروز، متزوج وله 3 أولاد: لينا وكانت تبلغ من العمر عند استشهاد والدها 12 عامًا وزينة 10 أعوام وفؤاد 8 أعوام.
بعد اندلاع الحرب في نيسان 1975 بقي يداوم في سراي طرابلس رغم كل النصائح والتحذيرات التي وصلته بوجوب ترك الشمال وبعضها من الزعيم كمال جنبلاط والأمير مجيد ارسلان، لكنه أصرّ على البقاء في مركز عمله معتبرًا وجوده في طرابلس استمرارًا لوجود الدولة ولو بالحد الأدنى، فإذا تركها، ينتهي وجود الدولة في الشمال وهذا ما حصل.
بعد استشهاده، غادر جميع الموظفين مكاتبهم في سراي طرابلس وباقي الدوائر الرسمية في المدينة واختفى حتى الوجود الشكلي للدولة، ولم يبق في السراي سوى رجال الدرك على رأسهم الملازم أول (العميد) حسن الحلاق من المنيه، الذي رفض تسليمها وواجه المسلحين الفلسطينيين وقاتلهم وأصيب برصاصة كادت تقعده، لكنه نجا بعد سفره إلى فرنسا للعلاج.
الإثنين 22 كانون الأول 1975، بقيت مكاتب سراي طرابلس فارغة، ولم يأت أي موظف إليها، وداوم يومها أمين سر المحافظة جورج اسطفان (من صغار قضاء البترون)، الذي كان ينوب عن المحافظ في مكاتب قائمقامية البترون، ومنها حاول تسيير شؤون المحافظة ولو بالحد الأدنى. وبعد أيام باشر طلال الحسن أحد كبار موظفي محافظة الشمال تسيير شؤون الناس من مكتب في سنترال طرابلس – الميناء.
نقل المحافظ قاسم العماد متوفيًا إلى مستشفى النيني القريب، ومنه إلى المستشفى الحكومي في طرابلس، فيما بقيت زوجته في مستشفى النيني تخضع للعمليات الجراحية.
كانت الأجواء أجواء حرب والطرقات مقطعة، والقيادات الدرزية تصرّ على إحضار جثمان المحافظ إلى الباروك، فأمّنت قيادة الجيش طوافة نقلت النعش من قيادة موقع الشمال العسكري في القبة قرب المستشفى الحكومي إلى بلدته حيث ووري في الثرى.
لماذ اغتيل المحافظ قاسم العماد؟
تطابقت أجوبة الجميع: إنهاء كل وجود للدولة في طرابلس، حتى الوجود الشكلي.
ماذا يخبر النقيب (العميد) عصام أبو زكي قائد درك الشمال وقتها؟
في مذكراته، يروي أبو زكي تفاصيل تلك الأيام الصعبة، وما كانوا يتعرضون له، وأخبر أنه قبل أيام قليلة وصلته تحذيرات جدية بضرورة توخي الحذر الشديد بحيث أن هناك قرارًا باغتياله، وكانت وصلته نصائح من كمال جنبلاط بمغادرة طرابلس هو والمحافظ أو أقله إرسال عائلتيهما إلى الشوف، فقرر نقل عائلته من المدينة، لكن المحافظ رفض وأصرّ على بقائها معه.
يقول بعض المقربين من المحافظ إن زوجته رفضت المغادرة وأصرت على البقاء معه.
كان للعميد أبو زكي صديق طرابلسي يدعى أحمد رسلاني، كان على علاقة بالمنظمات الفلسطينية والأحزاب في المدينة وهو من المطلعين على خفايا الأمور، فحذره أكثر من مرة بأنه قد يتم اغتياله. لكن الرسالة الأكثر إيلامًا التي وصلته، كانت صباح الخميس 18 كانون الأول 1975. ففيما كانت زوجته تهم بمغادرة مدخل البناية في شارع المئتين شاهدت أمامها شابًا مقتولًا يسبح في بركة دماء وتبيّن أنه من قضاء زغرتا كان اختفى قبل أيام، فانهارت من هول المشهد فقرر العميد أبو زكي إرسال عائلته إلى بيروت.
الجمعة 19 كانون الأول 1975، غادر العميد أبو زكي طرابلس مع عائلته لإيصالها إلى بيروت والعودة. وليلًا اقتحم منزله مسلحون فلم يجدوا أحدًا فنجا من الاغتيال.
هل كان المطلوب اغتيال قائد الدرك، وعندما لم يتم ذلك اغتيل محافظ الشمال بدلًا منه؟
حتى الساعة لم ينف أو يؤكد أي ممن تحدثت معهم هذا الأمر: قد يكون صحيحًا وقد يكون المطلوب وقتها اغتيال الإثنين أيضًا.
من اغتال محافظ الشمال؟
تشير المعلومات إلى أن من قام بالاغتيال، مجموعة طرابلسية تسمى تنظيم “صقور طرابلس”. كانت وقتها بقيادة أبو خليل الزعموط، وكانت الشعبة الثانية (المخابرات) في الجيش أول من أشار إلى مسؤولية هذه المجموعة وأعطت أسماء فوزي النابلسي وفيصل الأطرش ومحمد السيور، وهم من قبضايات طرابلس على أنهم من المنفذين، ولم تتمكن من توقيفهم بحيث ادعت “المقاومة الفلسطينية” أنها تحقق معهم ومع أبو خليل الزعموط بتهمة اغتيال المحافظ.
لماذا لم تؤمن حماية عسكرية للمحافظ؟
سؤال لم أحصل على جواب عليه، وإن كان البعض لفتوا إلى أن وقتها لم تكن هناك حمايات للمسؤولين كما هي اليوم. فكبار المسؤولين كانوا يتجولون بمفردهم أو مع سائق أو مرافق كحد أقصى.
يقول قيادي بعثي طرابلسي إن الدكتور عبد المجيد الرافعي، أرسل فؤاد الأدهمي قبل أيام للقاء المحافظ للبحث معه في أن تقوم قوات “البعث” بحمايته، لكنه رغم كل التبريرات التي قدمت له رفض أي حماية حزبية.
ماذا يقول الضباط الذين كانوا يخدمون في عاصمة الشمال وقتها وبعض مسؤولي الأحزاب في المدينة؟
كلهم يجمعون على مسؤولية تنظيم “صقور طرابلس” عن العملية.
العميد عصام أبو زكي أكد هذه المسؤولية في مذكراته.
العميد حسن حلاق أيضًا أكد مسؤولية جماعة أبو خليل الزعموط، وهذا كان رأي ضابطي مخابرات الجيش في الشمال: العميد معن ضناوي والرائد جان القاصوف.
خالد القواص مسؤول حزب “العمل الاشتراكي العربي” في طرابلس وقتها، جزم بمسؤولية جماعة أبو خليل الزعموط، لكنه لم يؤكد اسم من نفذ العملية، وهذا ما أكده أيضًا عبد الفتاح سوق مسؤول منظمة العمل الشيوعي في الشمال وقتها.
ماذا يقول أبو خليل الزعموط حول اغتيال المحافظ العماد؟
في حديث معه بعد 40 سنة، نفى أبو خليل الزعموط مسؤوليته عن العملية وقال إن “المقاومة الفلسطينية” اعتقلته وحققت معه طويلًا، ولم تثبت عليه أي مسؤولية. وفيما تردد عن بعض الأسماء المشاركة في الاغتيال كفوزي النابلسي أو فيصل الأطرش أو محمد السيور وغيرهم: لا ينفي أو يؤكد مسؤوليتهم، لكنه يشير إلى أن تلك الأسماء كانت وقتها لها علاقات مع جهات فلسطينية وسورية وهذا معروف في طرابلس.
يضيف: الأسماء التي ذكرتها كانت أصلًا من جماعة أحمد القدور، وعند اغتيال المحافظ كانت تقيم في بناية يملكها زغرتاوي يدعى بربر عنتر قرب مستشفى النيني صادرتها قبل أشهر، وما عادت تتردد إلى مكتبنا.
يكمل: تردد وقتها كلام عن دور لفلسطيني يدعى صلاح أبو زرد، ولكن لم يتم تأكيد هذا الأمر.
كان صلاح أبو زرد اتهم قبل أشهر، أنه شجع شباب من طرابلس على التوجه ليل 14 أيلول 1975 إلى شكا لاعتقال “الدنكورة” وهناك اصطدموا مع حاجز لمغاوير الجيش وسقط منهم 12 قتيلاً في حادثة عرفت بحادثة المغاوير وكانت مفصلية في مسار الحرب في الشمال: هل من علاقة له باغتيال المحافظ؟
من هو أبو خليل الزعموط قائد تنظيم “صقور طرابلس” المتهم باغتيال المحافظ قاسم العماد؟
الإسم الحقيقي لأبو خليل الزعموط هو أحمد سفاط الفول، لكن الجميع يعرفونه باسم أبو خليل الزعموط.
في 4 أيلول 1975 وإثر حادث بسيط في القبة بين سيارة طرابلسية وأخرى زغرتاوية، بدأ إطلاق الرصاص وسقط قتيل طرابلسي ورفعت المتاريس بين المدينتين.
بدأت الاتصالات في محاولة لوقف إطلاق النار وسرعان ما كان ينهار كل وقف إطلاق للنار لتعود المعارك إلى حماوتها: تبين أن هناك يدًا خفية تعيد إشعال النار، فما كان من الشعبة الثانية في الجيش إلا أن اكتشفت تلك اليد واعتقلت عددًا من الشبان الذين كانوا يتمركزون في الشوارع الفاصلة بين المقاتلين الطرابلسيين والزغرتاويين، ويعمدون إلى اطلاق النار على الطرفين كلما أعلن وقف لإطلاق النار.
كانت تلك المجموعة بقيادة أبو خليل الزعموط، ومن يومها صار يُسمع بهذا التنظيم.
أيضًا نفى أبو خليل الزعموط هذه الأخبار، وأشار إلى أنه كان أول من وقف وقتها في وجه المجموعات الزغرتاوية التي كانت تتقدم باتجاه طرابلس بعد مقتل عبد الجليل الضناوي، وأن مجموعته اشتبكت مع الزغرتاويين قرب كنيسة مار مخايل أسفل القبة قبل أن تتحرك باقي القوى الطرابلسية خاصة “حركة 24 تشرين”، ولولا تدخل مجموعته لوصلت المجموعات الزغرتاوية إلى ساحة التل.
بعد انتهاء حرب السنتين ودخول قوات “الردع العربية”، اختفى تنظيم “صقور طرابلس” وما عاد يُسمع عنه شيئًا، وبعد سنوات عاد أبو خليل الزعموط يداوم في مكتبه في التل من دون أن يسجل له أي حضور في المدينة وتوفي سنة 2021.
شكل اغتيال المحافظ العماد ضربة قاتلة لوجود الدولة في طرابلس، ولما تبقى من الوجود المسيحي فيها.
يخبر المونسنيور أنطون دهمان النائب الأبرشي الماروني في طرابلس أنه على أثر حادثة بوسطة داريا السبت 6 أيلول 1975 تلقى اتصالًا من المحافظ قاسم العماد، طلب منه النزول فورًا من كرم سده إلى طرابلس للبقاء إلى جانب المسيحيين في المدينة “إذا ما نزلت ما رح يضل مسيحي بطرابلس”. فنزل إلى المطرانية وبقي فيها محاولًا إقناع المسيحيين لا سيما الموارنة بالبقاء وتخفيف الويلات عنهم قدر استطاعته.
يضيف: كان لي 3 اتصالات يومية ثابتة مع المحافظ صباحًا بعد وصوله إلى مكتبه فيطلعني على التقارير الموجودة لديه، وظهرًا قبل مغادرته المحافظة ومساء اتصل به أنا إجمالاً في منزله.
يتابع: حقيقة بعد اغتيال المحافظ قررت ترك طرابلس، لكن عندما علم الرئيس رشيد كرامي بنيتي ترك المدينة عمل جاهدًا كي أبقى وزارني مسؤول الحزب الشيوعي أحمد المير الأيوبي وفؤاد الأدهمي موفدًا من الدكتور عبد المجيد الرافعي، وأرسل فاروق المقدم معاونه سمير بليبل طالبين بقائي في المدينة عارضين وضع حماية عسكرية أمام المطرانية، فقررت البقاء وبقيت مع قلة قليلة من الموارنة حتى دخول قوات الردع العربية في تشرين الثاني 1976. رئيسة دير راهبات العائلة المقدسة المارونيات في طرابلس أخبرت أيضًا أن المحافظ كان يتصل بها يوميًا أكثر من مرة لمعرفة ظروف الدير ومشجعًا على البقاء: بعد اغتياله غادرنا طرابلس.
لقد كان اغتيال المحافظ قاسم العماد محطة فاصلة بين مرحلة وأخرى، فقبل اغتياله كان لا يزال في طرابلس وجود ولو شكلي للدولة وبعد اغتياله وإصابة الملازم أول حسن حلاق سرقت وأحرقت سراي طرابلس ولم يبق في عاصمة الشمال حتى وجود شكلي للدولة.
بعد إحراق السراي، سرت أخبار أنه سيتم إحراق مبنى الدوائر العقارية ومالية الشمال، فأرسل فاروق المقدم رئيس حركة 24 تشرين قوة عسكرية لحماية المبنى، ومنعوا أي مسلح من الاقتراب فنجت الصحائف العقارية ومستندات المالية في كل الشمال من الحريق ولو تم احراقها لكانت كارثة كبيرة ما زال الناس حتى اليوم يحصدون ويلاتها.
وبعد أن بدأت الدولة تلملم جراح حرب السنتين لم يكن بالإمكان العودة إلى سراي طرابلس، فتوزعت مكاتبها بين دوائر رسمية عدة في المدينة، إلى أن انتهى ترميمها، فعاد إليها المحافظ اسكندر غبريل منتصف العام 1977.
رحم الله المحافظ قاسم العماد وكل الشهداء والضحايا الذين سقطوا في تلك الحرب الملعونة، ونحن نكتب عن تلك الأيام وكلنا أمل ألا تعود ويلاتها على بلدنا.
الذكرى الـ 50 لاغتيال محافظ الشمال قاسم العماد: من اغتاله ولماذا؟ .





