لم تعد هناك حاجة إلى التحليل. أعلنها رئيس الحكومة نواف سلام بوضوح: المرحلة الثانية على وشك الانطلاق، وهي محدّدة جغرافياً ببقعة ما بين النهرين: الليطاني والأوّلي، على أن تليها مرحلة ثالثة في بيروت وجبل لبنان، ورابعة في البقاع والمناطق الأخرى. ولكن، هل يدرك المعنيون أنّ التحدّيات المنتظرة في جنوب الأوّلي أصعب وأخطر من تحدّيات جنوب الليطاني؟
إذا كان الجيش اللبناني، مدعوماً بقوات «اليونيفيل»، وتحت وطأة النار الإسرائيلية، والضغط الأميركي، قد استغرق حتى اليوم 13 شهراً، لتنظيف القسم الأكبر من منطقة جنوب الليطاني من السلاح، تنفيذاً لقرار وقف النار الموقّع في تشرين الثاني 2024، وما زال ينقصه ربما شهر أو اثنان للإعلان عن اكتمال المهمّة المتعلقة بالمرحلة الأولى، فإنّ مدة الـ15 شهراً هذه كفيلة بتكوين فكرة عن الفترات الزمنية التي تستغرقها كلٌّ من المراحل الأربع التي حدّدها رئيس الحكومة.
والترجمة العملية المباشرة لهذا الاستنتاج ستظهر في المرحلة الثانية من خطة الجيش، أي في منطقة ما بين النهرين، الليطاني والأوّلي، التي يفترض أن تبدأ في شباط المقبل. وإذا كانت الصعوبات المنتظرة في هذه الخطة بمستوى الصعوبات التي ظهرت في المرحلة الأولى، لا أكثر، فمن المتوقع أن يستغرق إنجاز المهمّة هناك 15 شهراً أخرى، أي حتى منتصف العام 2027.
ولكن، في الواقع، منطقة «ما بين النهرين» أصعب وأخطر بكثير من مرحلة جنوب الليطاني، وهي بالتأكيد تحتاج إلى جهد أكبر بكثير يؤديه الجيش. وهي ستفتح الأبواب إما للحسم وإما للانهيار. فهذه المنطقة، بالنسبة إلى كل من الطرفين المعنيين، إسرائيل و»حزب الله»، هي بمثابة عمق حيوي يجب تأمينه حتماً.
بالنسبة إلى «حزب الله»، هذه المنطقة هي «خزان الإمداد» الأول. فبعد خسارته حرّية الحركة جنوب الليطاني، تحولت مناطق النبطية وإقليم التفاح وبعض مناطق جزين وصيدا، مراكز ثقل استراتيجية، تضمّ منظومات دفاعه الجوي ومخازن صواريخه الدقيقة، ومراكز للقيادة والسيطرة البديلة. وبالمعنى الاستراتيجي، هذه البقعة تربط «رئة البقاع» بـ«جبهة الجنوب».
أما بالنسبة إلى إسرائيل، فهذه المنطقة هي «المدى القاتل». أي إنّ الصواريخ الموجودة فيها قادرة على ضرب العمق الإسرائيلي. والسيطرة عليها تعني «شلّ» قدرة «الحزب» على المبادرة الهجومية في شكل نهائي.
والانتقال إلى شمال الليطاني سيرفع منسوب المخاطر إلى مستويات غير مسبوقة، لأسباب عدة:
1- انتقال الجيش اللبناني إلى وضعية تماسّ مباشر مع الكتلة الصلبة الحاضنة لـ«حزب الله». فشمال الليطاني كثيف السكان، خلافاً لما كان عليه الوضع في جنوب الليطاني المدمّر بمعظمه، والذي نزح كثير من سكانه. ولذلك، أي محاولة لنزع سلاح «الحزب» بالقوة بين النهرين ستفجّر مواجهة مدنية ـ عسكرية مع الجيش اللبناني و«مجهولين» ربما.
2- هذه المنطقة تقع خارج نطاق عمل قوات «اليونيفيل». ولذلك، سيعمل فيها الجيش اللبناني وحيداً. وسيكون أمام أحد خيارين: الدهم الناعم أم الحسم؟
في خطته التي تبنّتها الحكومة، يتعاطى الجيش مع هذه المهمّة بـ«واقعية أمنية». فهو لن يذهب إلى مواجهة جبهوية مع «حزب الله»، بل سيعتمد استراتيجية «تفكيك البنى اللوجستية»، من دون الانزلاق إلى مواجهة.
لكن المعضلة المتوقعة تكمن في أنّ إسرائيل لن تصبر على «النعومة» اللبنانية. فإذا لم ينفّذ الجيش ضربات لـ«الأهداف الصلبة»، ستتدخّل المسيّرات الإسرائيلية لتنفيذ المهمّة، ما يُحرج الحكومة ويُظهرها بمظهر «العاجز».
ولذلك، ثمة 3 سيناريوهات متوقعة في المرحلة الثانية:
ـ الأول، هو قبول الحزب بـ«مناورة التسليم»، حفاظاً على الهدوء السياسي الداخلي، فيسلّم مخازن «قديمة» ويسحب عناصره إلى الظل، في انتظار تغيّر الظروف الدولية.
ـ الثاني، أن تتعثر المناورة اللبنانية، فتقوم إسرائيل بتسديد ضربات واسعة في شمال الليطاني أو تطلق حرباً على لبنان لا يمكن ضبط حدودها، ولا أحد يضمن أن لا تُستتبع بعملية برية، تحت عنوان «تطهير» المنطقة، وخصوصاً النبطية وتلال إقليم التفاح.
ـ الثالث هو نجاح «الميكانيزم»، بجهود غربية وعربية، في مقايضة «نزع السلاح» بإعادة الإعمار، فيتمّ توسيع انتشار القوات المتعددة الجنسيات التي ستخلف «اليونيفيل» إلى منطقة ما بين النهرين، فتنشأ هناك منطقة أمنية مشتركة بإشراف تقني دولي، ما ينهي دور «الحزب» العسكري فيها بشكل دائم.
وفي الخلاصة، بدخول لبنان المرحلة الثانية من خطة نزع السلاح، في موازاة انتقال «الميكانيزم» إلى مراحل متقدّمة من المفاوضات، بأبعادها العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، هو يدخل أيضاً «عنق الزجاجة». فإذا تمكنت الحكومة والجيش من عبور هذه المرحلة بنجاح، يدخل لبنان عصر «الدولة». وأما إذا تعثرت، فقد يُرسم «الخط الأزرق» بالنار والبارود في قلب لبنان. ومن هنا، يمكن وصف المرحلة بأنّها مصيرية للبنان.
الدخول في حقل الألغام على الأوّلي .





