لم يكن إدراج الحبر الأعظم البابا لاوُون الرابع عشر زيارته لموقع تفجير الرابع من آب مجرّد محطة رمزية ضمن برنامج زيارته الرعوية – السياسية إلى بيروت. تخصيصه وقتًا للصلاة بصمت أمام اللوحة التذكارية التي تحمل أسماء 245 شهيدًا وضحية، يشكّل رسالة تُعيد التأكيد أن العدالة ليست ترفًا أخلاقيًا، بل حق وجودي لشعب ما زال ينتظر كشف حقيقة ما جرى في عنبر رقم 12، ومن سهّل وتغاضى حتى تحوّل المرفأ والعاصمة إلى ساحة موت.
وعلى تخوم تلك اللحظة المنتظرة، تتقاطع أبعاد الزيارة مع مشهد قضائي لبناني “هزلي” تُثقل عليه سابقة خطيرة تمثلت بإحالة القاضي طارق البيطار، المحقق العدلي في جريمة المرفأ، إلى المحاكمة أمام قاضٍ خاص بجرم اغتصاب السلطة وانتحال صفة محقق عدلي. هذه الإحالة، التي جاءت بناءً على ادعاء المدعي العام التمييزي السابق غسان عويدات، تُناقض بديهيات القضاء، إذ تدفع بقاضٍ يلاحق مشتبهين إلى الموقع نفسه الذي يُحاكَم فيه هؤلاء. والأسوأ أن اثنين من المدعى عليهم في القضية نفسها انضمّا إلى الشكوى، أحدهما بحقه مذكرة توقيف غيابية والآخر موقوف في الملف، في مشهد يختزل حجم العبث الذي بلغته السلطة القضائية.
وبحسب معطيات “نداء الوطن”، رفع القاضي حبيب رزق الله ملف التحقيق مع البيطار إلى النيابة العامة التمييزية قبل أيام لإبداء ملاحظاتها، بعد استجوابه وتلقي مطالب الجهات المدعية. وباتت النيابة العامة أمام ثلاثة مسارات: تأكيد الادعاء على البيطار، التراجع عنه، أو ترك القرار للقاضي رزق الله وفق موقف سبق واتخذه ممثلها المحامي العام التمييزي القاضي محمد صعب خلال جلسة الاستجواب. إلا أن القرار النهائي، سواء ظن بالبيطار أو كف التعقبات، يعود إلى رزق الله. وأي قرار بكف التعقبات لن يطوي الملف، إذ ستسارع الجهات المدعية إلى استئنافه، بما يعني جولة جديدة من الاستنزاف أمام الهيئة الاتهامية، رغم إدراك الجميع غياب أي أساس قانوني فعلي لتجريم البيطار أو نسف تحقيقاته، في محاولة واضحة لتشويه عمله والتمهيد للانقضاض على قراره أمام المجلس العدلي.
وفي موازاة هذا التخبط القضائي، يبرز مسار آخر لا يقلّ التباسًا: مسعى لبنان لاستعادة إيغور غريتشوشكين، مشغل سفينة “روسوس”. فبرغم توقيفه في بلغاريا منذ 5 أيلول 2025 والطلبات اللبنانية المتكررة، لم يصل أي جواب حاسم حول تسليمه أو السماح للبيطار بالاستجواب في صوفيا. فبعد أن طلبت بلغاريا بداية مزيدًا من التفاصيل حول الجرائم، عادت واشترطت ضمانات بعدم تعريضه لعقوبة الإعدام. وقدّم لبنان الأسبوع الماضي، عبر النيابة العامة التمييزية، ضمانات خطية صريحة مع تفنيد دقيق للمواد الجرمية المؤكدة أن غريتشوشكين لن يكون عرضة للعقوبة القصوى – الإعدام. ومع ذلك، ما زالت السلطات البلغارية متريّثة، في ما يعمّق الشكوك حول قدرة الجانب اللبناني، لا بل المحقق العدلي نفسه، على استكمال الملف والإسراع في إصدار القرار الاتهامي المنتظر وإحالة المدعى عليهم إلى المجلس العدلي.
في خلفية هذا المشهد، يكتسب حضور البابا في المرفأ بعدًا مضاعفًا، إذ يعيد في وقفته الصامتة التذكير بالمعنى الجوهري للعدالة كما عرّفها في رسائله السابقة: عدالة لا تُقاس بالنصوص وحدها، بل بقدرتها على خدمة الحقيقة وصون كرامة الإنسان. فالعدالة، كما قال بمناسبة يوبيل العاملين في مجال العدالة (20 أيلول 2025)، هي “فضيلة تقوم على إرادة ثابتة لإعطاء كل ذي حق حقه”، وعدالة لا تنفصل عن الحقيقة، لأن “محبة الخير للجميع هي الدافع الأساس لإعلان الحقيقة”. بهذا المعنى، تصبح زيارته إلى المرفأ رسالة سياسية – إنسانية موجّهة أولًا إلى المنظومة التي تتقاذف عرقلة التحقيق، وثانيًا إلى العالم الذي ينتظر من لبنان ما يثبت قدرته على استعادة انتظامه القضائي.
إن وقوف البابا بين الأهالي المفجوعين، حيث الرماد لم يبرُد في الذاكرة، يذكّر بأن العدالة ليست نصًا في خطبة ولا فقرة في قداس، بل التزام تاريخي تجاه الذين رحلوا والذين بقوا. فالصلاة الصامتة في أرض المرفأ قد لا تعيد الزمن، لكنها تعيد تثبيت البوصلة: لا سلام ومصالحة بلا حقيقة، ولا دولة بلا عدالة، ولا قيامة لبيروت ما لم يُكشف بالكامل ما حصل في الرابع من آب.
قد لا يحمل البابا مفاتيح الحقيقة، لكنه يحمل ما هو أهمّ: سلطة أخلاقية كفيلة بتذكير اللبنانيين والعالم بأن جريمة بهذا الحجم لا تُقفل بالصمت ولا تُمحى بالنسيان، وأن العدالة، مهما طال الزمن، ليست خيارًا، بل هي شرط لشفاء وطن ولكي تعود بيروت مدينة جديرة بالحياة.
البابا في المرفأ: صلاة صامتة تكسر صمت العدالة! .




