ثلاثة أيام سماوية يعيشها اللبنانيون التوّاقون إلى القيامة، بعد سنوات من الصلب على خشبة المحاور والحروب. في اليوم الثاني لزيارة الحبر الأعظم، تجلّى لبنان بأبعاده الثلاثة: قداسة عابقة من “قمّة عنايا” بين القديس شربل وقداسة البابا لاوون الرابع عشر، تلتها محطة روحية جامعة مع الأساقفة والكهنة والمكرسين والمكرسات في حريصا، ولقاء خاصّ مع البطاركة الكاثوليك في السّفارة البابويّة؛ تنوّع وتعدديّة تجسّدا في اجتماع ممثلي الطوائف في ساحة الشهداء؛ وروح لبنانية متجدّدة تنبض في الشبيبة الباحثة عن وطن يشبه أحلامها.
نبض الشباب يطوف بكركي
في هذا السياق، أشار مصدر كنسي لـ “نداء الوطن”، إلى أن المحطة التي رفعت المعنويات، وأعادت الأمل بالمستقبل، كانت لقاء الشبيبة في بكركي مساء أمس. إذ فاق عدد المشاركين التوقعات. وبرز من خلاله إيمان الشباب المسيحي، رغم ما يُقال عن ابتعاد الجيل الجديد عن الكنيسة. وتجلّى التفاعل العميق بين قداسة البابا وجيل المستقبل، إذ جال بينهم بلا حواجز، واستمع لهواجسهم، وردّ عليها بعفوية واهتمام.
وبحسب المصدر، أعطى اللقاء انطباعًا قويًا بأن المسيحيين ما زالوا هنا، وأن العصب المسيحي حيّ ونابض، مفندًا كل الادعاءات حول تلاشي الوجود المسيحي بفعل الحروب والهجرة والتراجع الديموغرافي. هذا النبض، عبّر عنه أيضًا، عضو الكونغرس الأميركي ليندسي غراهام، حيث لفت في منشور عبر “أكس”، إلى أن “زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان تأتي في لحظة حرجة”. وقال “إن وجوده يذكرنا بقوة المجتمع المسيحي ووحدته في لبنان، كما إن رسالة السلام التي يحملها تبعث الأمل في نفوس شعب عانى الكثير”. وأضاف: “نأمل أن تجلب زيارته الراحة والشفاء والتزامًا متجددًا للمصالحة بين لبنان وإسرائيل وجميع جيرانه”.
ولفت المصدر إلى أن بكركي، كما أكّد البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي أمام البابا والشبيبة، ستبقى حامية الجمهورية اللبنانية، متمسكة بدورها التاريخي، داعية إلى بناء لبنان جديد بعيدًا من العنف واستنساخ الماضي. فلقاء الشبيبة، ببساطته وعمقه، أظهر أن لبنان لا يزال بخير، وأن الأمل قائم شرط الصبر والاستمرار بالنضال وسط الظلمة.
وقد حمل البابا رسالة سلام وفرصة تاريخية للبنان، فيما عبّر الشباب بوضوح عن رغبتهم في هذا السلام، لبناء مستقبل يليق بهم. وختم المصدر بالقول: “هذا هو وجه لبنان الحقيقي، وهذه هي مطالب شعبه. والبابا، بصوته ورمزيته، يدعم هذا الخيار. لقد آن الأوان لإنهاء الظلم المزمن، والخروج من دوّامة المحاور والحروب، والسير نحو حيادٍ يفتح الطريق إلى السلام الحقيقي”.
وكانت الساحات الخارجية للصرح البطريركي امتلأت بالآلاف من اللبنانيين والوافدين من دول عدّة، ومن مختلف الفئات العمرية، غلبت عليها الطابع الشبابي، وقد رفعت الأعلام البابوية واللبنانية ترحيبًا بقداسة البابا. وقد وُزعت شاشات عملاقة في الساحات، نقلت أجواء التحضيرات واللوحات الترنيمية والرمزية الخاصة بالمناسبة، وسط دعوات إلى أن يكون الحشد رسالة حيّة لقداسته بأن هذا الجمهور هو جمهور سلام.
وحدة مسكونية في ساحة الشهداء
بعد أن مزقته “وحدة الساحات” و”حروب الإسناد”، عكس لقاء ساحة الشهداء صورة لبنان المتعدّد، غير المتقاتل، المتعايش بطوائفه ومكوناته. وتوقفت المصادر عند كلمة نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب، التي لاقت وقعًا إيجابيًا، خصوصًا حين أكد “أننا لسنا من هواة حمل السلاح والتضحية بأبنائنا”، واضعًا “قضية لبنان بين أيديكم، لعلّ العالم يعيننا على الخروج من أزماته المتراكمة”. وكانت لافتة أيضًا كلمة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي، التي استعاد فيها سيرة شارل مالك لما يمثله من رمزية ودور ريادي في إيصال القضية اللبنانية إلى المحافل الدولية. فقال: “أهلاً بكم في لبنان، الوطن الرسالة، وهو اللقب الذي أطلقه شارل مالك، ابن كنيستنا الأنطاكية الألمعي، والذي كان له الدور الأساسي في إقرار شرعة حقوق الإنسان. وهو اللقب نفسه الذي أكّده لاحقًا قداسة البابا يوحنا بولس الثاني خلال زيارته للبنان”.
وفي ختام اللقاء المسكوني والحواري بين الأديان الذي جمع البابا برؤساء الطوائف في لبنان ونحو 300 مدعو، غرس البابا مع البطريرك اليازجي وشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز سامي أبي المنى غرسة زيتون قدمها له طفلان، على وقع ترانيم في مساء الورد يا مريم ونشيد المخلوقات، ثم صورة تذكارية بالمناسبة، وصافح البابا في نهاية اللقاء عددًا من الحاضرين، وغادر على وقع التصفيق.
رسالة إلى العراق ليَسمع لبنان
فيما يرجو اللبنانيون أن تطول بركة هذه الزيارة، فتُبعد عنهم شبح الأزمات ومخاوف الحروب، كشفت “الحدث” عن رسالة تحذيرية وجّهها توم براك إلى العراق، حملت إنذارًا من عملية إسرائيلية وشيكة ضد “حزب الله” في لبنان، هدفها نزع سلاحه بالكامل، مع دعوة واضحة للفصائل العراقية بعدم مؤازرته.
أما على خطّ تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار وسحب سلاح “حزب الله”، فعلمت “نداء الوطن” أن مورغان أورتاغوس، التي ستحضر اجتماع “الميكانيزم” الخميس، لم تطلب حتى الآن أي موعد من القصر الجمهوري في بعبدا، أو من السراي الحكومي أو عين التينة، ما يشير إلى أن زيارتها قد تقتصر على الشق العسكري، ما لم يطرأ تعديل على جدول مواعيدها في الساعات المقبلة. وأفادت مصادر بأن وفد سفراء الدول الأعضاء في مجلس الأمن، الذي يزور لبنان الخميس ويلتقي الرئيس جوزاف عون وعددًا من المسؤولين، قبل أن يتوجّه إلى سوريا، يقوم بمهمة استطلاعية، في ظلّ تزايد الحديث عن احتمال تجدّد الحرب، واتجاه الأوضاع نحو مواجهة عسكرية على الأرض اللبنانية.
البابا بين لحظة عنايا وصوت الشبيبة في بكركي .






