“الاستقلال الثالث”… أمل ترسمه زيارة البابا وطريق السلام

يرى بعضهم أن خطاب الرئيس جوزاف عون لمناسبة الاستقلال يشكل تجديداً لخطاب القسم وتأكيداً على إرادة في التنفيذ والحسم

منذ خروج الانتداب الفرنسي، تناوبت على لبنان مشاريع خارجية، من “الحركة الناصرية” التي مزقت الداخل، إلى الفصائل الفلسطينية التي تحالفت مع “الحركة الوطنية” وحولت لبنان إلى ساحة حرب مفتوحة، وصولاً إلى الاحتلال السوري الذي صادر الدولة واغتال الرئيس رينيه معوض لأنه أراد تطبيق “اتفاق الطائف” واستعادة القرار الوطني. وحين خرج السوريون، قتل “الاستقلال الثاني” باغتيال الوزير بيار الجميل، فيما أمسك “حزب الله” بمفاصل البلاد وارتهنها للمشروع الإيراني.

بعد 82 عاماً على إعلان استقلال الجمهورية اللبنانية، لا يزال اللبنانيون يبحثون عن استقلال حقيقي يرسخ دولة قوية لا تهتز أمام العواصف الداخلية والخارجية، فمنذ خروج الانتداب الفرنسي عام 1943، عرف لبنان لحظات قصيرة من السيادة، سرعان ما تبعتها موجات من التدخلات الإقليمية والانقسامات الداخلية التي أجهضت كل محاولة لبناء استقلال ثابت ودائم.

وبعد مرحلة ازدهار لافتة خلال الخمسينيات والستينيات، دخلت البلاد في أتون الرياح “الناصرية” التي استجابت لها قوى داخلية، فمزقت الوحدة الوطنية ووضعت لبنان في خط الصراع الإقليمي، ومع صعود المد “الناصري” وتحالفاته انجرفت أحزاب لبنانية إلى مواقع عدائية ضد الدولة، فكان ذلك بداية السقوط الكبير.

وهذا السقوط تعمق أكثر مع دخول العامل الفلسطيني، إذ تحول لبنان إلى ساحة مفتوحة للكفاح المسلح، واستُخدمت أراضيه لخوض معارك الآخرين. واستكمالاً للمشهد، انضمت “الحركة الوطنية” إلى هذا المحور، فتحالفت مع الفصائل الفلسطينية وشاركت في القتال داخل لبنان وضد اللبنانيين أنفسهم، إلى حد أصبح فيه الاستقلال الأول مجرد ذكرى، فيما القرار الفعلي انتقل إلى أيادٍ خارجية تتصرف بالوطن كما تشاء.

“الحركة الوطنية”… ذراع الخارج

وحين دخل الجيش السوري إلى لبنان بصفة “الراعي والوسيط”، لم يلبث أن تحول إلى قوة احتلال كاملة، مدّ نفوذه على كل المؤسسات وفرض وصاية قاسية امتدت لعقود. والأسوأ أن جزءاً من اللبنانيين كان شريكاً مباشراً في هذا الاحتلال، يمنحه الشرعية ويؤمن له الغطاء السياسي، إلى أن أصبح لبنان رهينة أكبر مشروع خارجي عرفه منذ قيام الجمهورية. وخلال تلك المرحلة كان “اتفاق الطائف” يشكل فرصة نادرة لإنقاذ لبنان وإعادته للحياة الطبيعية، لكن هذه الفرصة قتلت باغتيال أول رئيس للجمهورية بعد الطائف رينيه معوض الذي اغتيل يوم عيد الاستقلال فقط لأنه كان يعمل بصدق على تطبيق الاتفاق وعلى إنهاء الوصاية وعلى إعادة لبنان لحضنه العربي الطبيعي. واغتياله كان إجهاضاً صريحاً للاستقلال المفترض، ورسالة بأن لبنان لن يسمح له بأن ينهض بقيادة إصلاحية جديدة تبحث عن دولة لا عن ميليشيات.

ومع خروج الجيش السوري عام 2005، ظن اللبنانيون أنهم يدخلون “استقلالهم الثاني”، لكن هذا الاستقلال سرعان ما تلقى ضربة دامية باغتيال الوزير بيار الجميل في ليلة عيد الاستقلال نفسه، وكان الاغتيال إعلاناً واضحاً أن قوى الغدر لا تزال تريد إبقاء لبنان تحت سيطرة منظومة واحدة، منظومة تتحالف مع السلاح غير الشرعي وتعمل لإبقاء القرار الوطني خارج المؤسسات الشرعية. وسرعان ما تكرس هذا الواقع مع دخول “حزب الله” كذراع مباشرة للمشروع الإيراني الذي أعاد لبنان لخانة الساحة الإقليمية، لا الدولة المستقلة.

مرحلة جديدة

لكن الأعوام الأخيرة حملت تحولات كبرى في المنطقة جعلت اللبنانيين يشعرون بأن مرحلة جديدة بدأت، وأن الأبواب التي كانت مغلقة بدأت تفتح.

وشكّل انتخاب الرئيس جوزاف عون محطة بارزة في هذا التحول، إذ بدا خطاب القسم بمثابة صدمة إيجابية أعادت إحياء الأمل بوطن منضبط ومؤسساتي وقادر على استعادة قراره الحر، لكن تنفيذ هذا الخطاب اصطدم بتعقيدات داخلية معروفة، وبمنظومة متشابكة حالت دون ترجمة الوعود إلى خطوات سريعة.

ومع ذلك، جاءت كلمة الرئيس ليلة عيد الاستقلال الـ82 لتعيد روح القسم وتمنحه قوة أكبر، فقد بدا واضحاً أن زمن المهل انتهى، وأن الدولة تتجه نحو مرحلة جديدة أكثر وضوحاً وحسماً، وأن لبنان يعلن تغييراً في مقاربته لكثير من الملفات الحساسة، بما فيها موضوع التفاوض والانفتاح على مسار السلام الإقليمي والتعامل مع المجتمع الدولي بانفتاح ومسؤولية.

وليس تفصيلاً أن تأتي كلمة الرئيس عشية زيارة البابا لاوون الرابع عشر المرتقبة إلى لبنان تحت شعار “السلام في لبنان… ولبنان يريد السلام”، وهو شعار لا يعكس مجرد زيارة بروتوكولية، بل يترجم تحولاً سياسياً وروحياً عميقاً في مسار البلاد، ويمثل عنوان مرحلة جديدة تقول بوضوح إن زمن الحروب والوصايات والمشاريع الخارجية انتهى.

وعلى رغم المعاناة اليومية للبنانيين، فإن الواقع يظهر تقدماً ملموساً خلال العام الأخير في مكافحة تجارة المخدرات وتفكيك شبكاتها، وسقوط رؤوس كبيرة كان يعتقد بأنها محمية وغير قابلة للمساس، إضافة إلى تحسن أداء القضاء وتزايد قدرة المؤسسات الأمنية على الإمساك بالأرض. وهذه الخطوات، وإن بدت بطيئة أمام آلام الناس وحجم الخراب الذي تراكم خلال عقود، إلا أنها تشكل جزءاً أساسياً من بناء مسار الاستقلال الثالث الذي لا يمكن أن يولد دفعة واحدة، بل عبر تراكمات ثابتة.

وإذا كانت مرحلة الستينيات شهدت “حركة وطنية” متحالفة مع الخارج، والفلسطينيون شكلوا عاملاً مدمراً، و”الناصرية” مزقت الداخل، والسوريون فرضوا وصايتهم، والإيرانيون أدخلوا لبنان في حروبهم، فإن الواقع اليوم مختلف تماماً. المنطقة تسير نحو السلام، والمحاور تتغيّر جذرياً، ولا مكان بعد الآن لحصان طروادة لبناني يخدم مشروعاً خارجياً على حساب الدولة. فزمن المتاريس انتهى، وزمن “لبنان الساحة” بات من الماضي، ولبنان الجديد يتجه لأن يكون دولة صلبة منفتحة على العالم العربي، تشكل جزءاً من شبكة إقليمية للتعاون والاستقرار.

طريق السلام

إن “الاستقلال الثالث” ليس شعاراً رومانسياً، بل هو مشروع قابل للتحقق، يقوم على استقلال لبنان عن النفوذ الإيراني وعن بقايا الوصاية السورية وعن السلاح غير الشرعي، وعلى بناء مؤسسات قوية قادرة على حماية حدودها واقتصادها وأمنها، وهو استقلال يجعل لبنان منبراً للحريات وواحة للسلام في المنطقة، لا ملجأ للفوضى والصراعات.

اليوم، بين خطاب الرئيس وزيارة البابا والتحولات الإقليمية العميقة وإرادة اللبنانيين بالخروج من متاهات الماضي، تتكوّن لحظة وطنية نادرة، لحظة تقول إن المستقبل مفتوح وإن الأعوام السوداء انتهت وإن لبنان قادر على أن يكون “دُرّة الشرق”، بلداً مستقراً يعيش فيه أبناؤه بسلام وازدهار، ويتنافس فيه العرب على الاستثمار لا على النفوذ، وتكون فيه الحرية قاعدة لا شعاراً.

هذه اللحظة ليست وهماً، بل فرصة تاريخية. واللبنانيون، بعد 82 عاماً من الاستقلال الأول، يقفون اليوم أمام احتمال واقعي أن يكون هذا هو الاستقلال الثالث… الاستقلال الذي طال انتظاره.

“الاستقلال الثالث”… أمل ترسمه زيارة البابا وطريق السلام .

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...