استقالة القاضية المهتار: مضبطة إدانة للدولة الجديدة

لم تكرّر صحافة في العالم مقولة ونستن تشرشل الشهيرة عن اهمية القضاء كما فعلت الصحافة اللبنانية، ولكن التكرار لم يعلّم الشطّار بعد في لبنان. الشاهد على عدم تعلّم الدروس هو النزف الهادئ والمستمر في القضاء منذ العام 2020 اذ استقال حتى اليوم عشرات، منهم من كان يعوّل عليه لاستلام مراكز هامة كزياد مكنّا، كارلا قسيس، فادي عنيسي، ربيع معلوف وانطوان طعمة. ولا يتوقف النزف عند الاستقالات بل يتعداه الى الرغبة العلنية عند عدد كبير من القضاة للانتقال الى ملاك الادارة ليصبحوا موظفين مرؤوسين بعد ان كانوا يمارسون سلطة دستورية كما فعل القضاة الذين تم تعيينهم محافظين والشهية ما تزال مفتوحة راهناً في السباق القائم لتعيين محافظين جدد، يضاف الى هؤلاء تعيين سامر ليشع مؤخراً مديراً في مصرف لبنان.

 

آخر المغادرين كانت القاضية ساندرا المهتار الذي شكّل كتاب استقالتها قراراً اتهامياً أكثر من أي شيء آخر، ضبطت فيه الواقع الكئيب للقضاء ومعه القضاة. هو واقع بقي حتى نشر الكتاب مستوراً، لا يتم تظهير الا جزء قليل منه كتأثير الضغوط السياسية على عمل القاضي وضرورة ان يتحرّر منها، في حين أنّ باقي جبل الجليد كان يبقى وعن قصد بعيداً من علم الناس حتى يتم التصوير أن أي تقصير في عمل القاضي يعود لشخصه هو وليس لأي سبب آخر. فعلاً، شهد شاهدٌ من اهله.

لعلّ أخطر ما مثّله كتاب الاستقالة، حجم التفاعل الايجابي معه من قبل زملائها القضاة، فتعدّى كونه قراراً اتهامياً ليصبح استفتاءً تمكنت من خلاله القاضية المهتار إيصال صوت السواد الأعظم من القضاة الذين ثبت معاناتهم الأمرّين في تأدية مهامهم في ظروف غير إنسانية، سواء لجهة نقص الموارد المادية والبشرية الأساسية لسير العمل القضائي وحتى انعدامها احياناً، او لجهة مباني قصور العدل المتهالكة بعد أن باتت تفتقر للحد الأدنى من المقومات الحيوية كالماء والكهرباء والمراحيض والتدفئة والنظافة العامة، ناهيك عن غياب أعمال الصيانة العادية عنها.

واقع ازمة القضاء

إنّ التدقيق بواقع ازمة القضاء يبيّن الفارق الهائل في مقدّرات البنية التحتية والامكانيات اللوجستية المتاحة للقضاء وتلك المتاحة لباقي مرافق الدولة ومنها المرافق المالية كمصرف لبنان مثلاً او الامنية كالامن الداخلي والامن العام والجيش التي تقع دائماً في صلب اهتمام الدول المانحة بسبب السعي الحثيث لقادة هذه الاجهزة في تظهير حاجات مؤسساتهم. تظهر على سبيل المثال المكننة المتوفرة لدى الاجهزة الامنية والمباني اللائقة لاستقبال المراجعين وغيرها من الامور التي تسهّل تقديم الخدمة للمواطن. أما القضاء فحدّث ولا حرج، إذ أنّ القضاة وجدوا أنفسهم يدفعون من مدخولهم الخاص تكاليف تنظيف قصور العدل وصيانة الأعطال وتأمين القرطاسية، وعوض أن يعمل المسؤولون عن إدارة المرفق القضائي على معالجة هذا الوضع فقد استساغوا هذه الممارسة لدرجة أنهم عملوا على تطبيعها ومأسستها، حيث عمّم الرؤساء الأول في المحافظات على القضاة بدفع مبلغٍ معين من المال شهرياً لتأمين هذه الخدمات.

ضف الى ذلك، أنّ القضاة الذين تم تعيينهم في محاكم بعيدة عن مكان إقامتهم، يتحمّلون وزر معاناة من نوع آخر. فعلاوةً على التكاليف العالية التي يتكبدونها من جيبهم الخاص لتأمين المحروقات ولصيانة سياراتهم الخاصة جراء المسافات الطويلة التي يقطعونها قبل الوصول إلى محاكمهم، لم يلتفت أيٌ من وزير العدل أو مجلس القضاء الأعلى إلى ضرورة تأمين سواء آليات او مرافقين لهم لتسهيل انصرافهم إلى تأدية مهامهم بعد طول طريق، كما وحمايتهم من مخاطر القيادة بعد عناء يوم عمل شاقٍ. وقد حصل فعلاً مؤخراً أن تم الاعتداء بالضرب على القاضية حنان قنديل وهي تقود سيارتها وحدها وقبلها القاضي اميليو قزي الذي كاد ان يفقد حياته نتيجة حادث سير مروّع تعرّض له بسبب الارهاق في طريق عودته من عمليات الفرز في الانتخابات البلدية.

أما التحسينات المرحلية فأتت مؤقتة اذ تم منح القضاة مبالغ محددة بالدولار الاميركي لا تكفي لتغطية احتياجاتهم الحياتية الأساسية ولا تدخل في أساس الراتب، الامر الذي ادّى الى استيفاء القضاة الذين احيلوا الى التقاعد بعد الازمة حوالي العشرة بالماية من التعويض الذي من المفترض ان يتقاضوه من صندوق التعاضد. كما وأن تقديمات صندوق التعاضد قد تراجعت بشكل حاد وتحديدا في ما يتعلق بالاقساط المدرسية الامر الذي دفع القضاة الى تغطية الفارق من جيبهم الخاص الفارغ أصلاً.

 

غياب الافق

لعلّ أهمّ ما يصطدم به القضاة هو غياب الافق، فإنّ أكثر من مئة وخمسين قاضٍ من جيل الشباب (أي ما يزيد عن ربع عدد القضاة العاملين)، يجدون أنفسهم عاجزين عن تأمين مسكنٍ لهم إذ إن مدخولهم لا يسمح لهم حتى باستئجار بيت، فضلاً عن غياب أي مبادرة تتيح لهم الاستفادة من قروض إسكانية وهو بالتحديد الامر الذي دفع عدد غير قليل من القضاة الجدد الى تقديم استقالاتهم.

يبقى الشاهد الأول هو مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل اللذان لم يسجّلا في رصيدهما سوى انجاز تشكيلات قضائية تم التركيز بشكل مفرط على انها اعادت عجلة القضاء الى العمل متناسين كونها وضعت اعباء اضافية على كاهل القضاة دون ان تتم مواكبة هذه المسؤوليات بتحسين ملموس لظروف حياتهم وعملهم، فمجلس القضاء الاعلى منح القضاة ستة اشهر ليقيّم عملهم في المراكز الجديدة ولكنه لم يحدد لنفسه مهلة لتحسين وضعهم. إنّ أكثر ما فاقم حال التململ بين القضاة هو الانفصال المقصود عن الواقع غياب أي تواصل مباشر بين القضاة وبين مجلس القضاء الأعلى جرّاء انكفاء هذا الأخير عن الدعوة لعقد هيئة عامة منذ ما قبل انتخابات رئاسة الجمهورية، حارماً القضاة حتى من إمكانية مشاركة المعاناة والعوائق والهموم التي يواجهونها في العمل مع بقية زملائهم ومع رأس هرم السلطة القضائية للتباحث في طرق معالجتها.

أصبح بالتالي من البديهي أن يتساءل المواطن ماذا لو كان الشعور بالمظلومية والاضطهاد قد تغلغل بصمت في نفوس معظم القضاة اللبنانيين العاملين، ولا سيّما منهم من لا يستطيعون الاستقالة لسببٍ ما؟ وكيف نتوقع تحقيق العدالة ممن خنقهم الشعور بالظلم؟ ألن ينعكس ذلك على حقوق المتقاضين؟

والأهمّ، هل سيبقى القضاة مترفعين عن القيام بأي تحرّك احتجاجي في ظل التقهقر المتعاظم لحال السلطة الدستورية التي يؤلفونها؟ أم أن الدعوات المتتالية لرصّ الصفوف التي من المرتقب أن تصل إليهم تباعاً ستعود بنا إلى التحرّك القضائي الضخم الذي شهده العام 2017؟

ساندرا المهتار ومعها زملاؤها قالوا كلمتهم: القضاء اللبناني يحتضر! أما الشطّار على فرض وجودهم فالطابة في ملعبهم، وعسى تكرار عبارة تشرشل هذه المرة أن ينفعهم، فهم بالنتيجة من يشدّون يد القضاة على مطرقتهم وهم من يدفعونهم إلى إسقاطها.

لا تسقطوا المطرقة من يد القضاة!

استقالة القاضية المهتار: مضبطة إدانة للدولة الجديدة .

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...