كانت مسيرة قيادة الجيش حافلة منذ أن تسلّمها العماد رودولف هيكل. ففي أقلّ من عام واحد، مرّ الجيش باستحقاقات عدّة، ووُضع أمام امتحانات صعبة، وحتّى الآن نجحت المؤسّسة في تحقيق التوازن المطلوب منها في مقاربة الملفّات الحسّاسة بين دقّة التوازنات الداخليّة ولائحة المطالب الدوليّة.
في اجتماع باريس هذا الأسبوع، نجح قائد الجيش العماد رودولف هيكل في عرضه لعمل الجيش على طاولة المبعوثين الدوليّين، بمشاركة سفير الولايات المتّحدة في لبنان ميشال عيسى للمرة الأولى بعد تسلّمه مهامه في بيروت.
بين خطّة الجيش التي نتجت عن جلستَي مجلس الوزراء في آب الماضي، وحصيلة ورشة العمل قبل أسبوعين من نهاية العام، ماذا في تفاصيل المشهد الدوليّ الذي بدأ في اجتماع باريس؟
السّعوديّ دعم هيكل… والأميركيّ ناقش بصراحة
مصادر دبلوماسية غربية كشفت لـ”أساس” أنّ الاجتماع انطلق من قاعدة الثقة الكبيرة التي وضعها المجتمع الدوليّ برئيس الجمهوريّة جوزف عون لإنجاز المهمّة. أمّا العماد هيكل فهو اليوم مختلف عن السابق لجهة قدرته على التماسك في كلّ العواصف، وتماسكه في اجتماعٍ هو أشبه بامتحان دوليّ أمام ثلاثة مبعوثين لدول ترعى لبنان بشكل مباشر. سمع هيكل من الحاضرين أسئلة قاسية، وسمع دعماً كبيراً أيضاً. ومقابل هذا الدعم، يدرك هيكل أنّ هذه الدول تتابعه متابعة دقيقة في كلّ خطوة من خطواته.
في غرفة اللقاء في الإليزيه كان واضحاً الدعم السعوديّ لهيكل في كلّ مرّة تتوتّر فيها الأجواء، وتدخُّل الجانب السعوديّ إلى جانب هيكل أراده أن يكون حريصاً على استمرار الدعم للبنان في ما سيُقبل عليه في المرحلة المقبلة، وتبنّى قرار رئيس الجمهوريّة المضيّ قدماً في التفاوض، وبعد عمل هيكل على مواكبة السقف الإسرائيليّ العالي بمسؤوليّة كبيرة.
وأضحت المصادر الغربيّة إنّ النقاش كان صريحاً وجريئاً. ففيما كان الطرف الأميركيّ، المتمثّل بالموفدة مورغان أورتاغوس، متقدّماً في شروطه لجهة تنفيذ الجيش لمجموعة مطالب لم يكن يوافق عليها سابقاً، كان الطرف السعوديّ، المتمثّل بالأمير يزيد بن فرحان، يوفّر أجواء مريحة للعماد هيكل بإشادته بتضحيات الجيش اللبناني، في حين بدا السفير ميشال عيسى مُلِمّاً بالشأن اللبنانيّ بشكل سريع. وبين السعوديّ والأميركيّ كان الفرنسيّ، كعادته، دبلوماسيّاً يحاول إيجاد مفردات وصيغ تسهم في التوصّل إلى حلول.
وقائع اللّقاء
في التفاصيل، يكمل المصدر نفسه سجّل الاجتماع الذي رأسه الموفد الفرنسيّ جان إيف لودريان تفاهماً واضحاً بين أورتاغوس وبن فرحان ولوجاندر، وجعل هذا التفاهم الاجتماع يتّخذ منحى إيجابيّاً على أكثر من صعيد:
– أوّلاً: فرض الجانب السعوديّ بصمتَه. أبعد الاجتماع عن الإعلام، وشاركه الجانب الأميركيّ في ضرورة إصدار بيان مقتضب فقط.
– ثانياً: أصرّ الجانب السعوديّ على تضمين البيان إشادة واضحة وصريحة بعمل الجيش اللبنانيّ وتضحياته.
– ثالثاً: أكّد الجانب الفرنسيّ ضرورة إيجاد آليّة متابعة لمواكبة المراحل التي تلي جنوب الليطاني.
– رابعاً: كان العماد هيكل صريحاً وواضحاً جدّاً في نقاشه عمل الجيش في جنوب الليطانيّ، بكلّ ما فيه من تحدّيات تواجه الجيش أو مواقف ومقاربات تختلف عن نظرة المجتمع الدوليّ. لكنّه في المقابل سمع بوضوح أن لا عودة للبنان إلى المجتمع الدوليّ إلّا بتطبيق كامل لخطّة حصر السلاح.
– خامساً: أكّد الجانب السعوديّ دعمه الدولة اللبنانيّة ورئيس الجمهورية الجيش اللبنانيّ، وأكّد أيضاً في موقف صارم رفض بلاده لتكرار التجارب اللبنانيّة السابقة مع مؤتمرات الدعم الدوليّة. وبالتالي لن يكون مؤتمر ينعقد في شباط المقبل، إن حصل، مشابهاً لأيّ مؤتمر سابق، بل سيكون على أساس واضح ومتين، وستُتابع نتائجه وتنفيذ بنوده على الأرض بشكل دقيق.
مقاربة واشنطن وتل أبيب… وردّ لبنان
في سياق الإعداد لهذا اللقاء، وبعد حصوله، لا بدّ من التوقّف عند المنعطفات التي مرّ بها الجيش في تنفيذ خطّته. واحدة من النقاط التي سُجّلت لمصلحة قيادة الجيش هي تعاطيه مع الملفّ بعدما ألقى مجلس الوزراء “كرة النار” إليه في آب الماضي. لكن في الأشهر الماضية كانت واشنطن تتحدّث عن تقصير كبير في عمل الجيش جنوب الليطاني، وكانت تل أبيب تتحدّث عن قدرة “الحزب” على إعادة بناء نفسه هناك أيضاً.
أمّا لبنان فتردّد في البداية التعامل بشكل جدّي مع هذا الأمر قبل أن يقوم هيكل بمجموعة خطوات من شأنها أن تبدأ بتقديم إجابات واضحة للمجتمع الدولي:
– أوّلاً: دعا هيكل الدبلوماسيّين والصحافيّين إلى جنوب الليطاني للقيام بجولة في المواقع التي استولى عليها الجيش، والتي كانت تابعة لـ”الحزب” وانتقلت إليه.
– ثانياً: في الأيّام الأخيرة، وافق هيكل على مطلب لجنة “الميكانيزم”، وخلفها تل أبيب، الدخول إلى المنازل لتفتيشها وتصويرها وبثّ الصور للتأكّد من خلوّها من الأسلحة. وبالتوازي، تعامل بحزم وحسّ قياديّ كبير في مواجهة استمرار التهديد الإسرائيليّ للمنازل نفسها التي دخلها الجيش، على الرغم من إثبات خلوّها من الأسلحة، فأمر بنشر عناصر الجيش اللبنانيّ في المكان، ووضع الجانب الإسرائيليّ أمام مسؤوليّة كبيرة في قصف الموقع واستهداف العسكريّين.
– ثالثاً: أجاب هيكل بوضوح، وهو المعروف بصراحته، عن كلّ الانتهاكات التي تقوم بها إسرائيل في لبنان، مشدّداً على أنّ العائق الأساسيّ أمام الجيش في جنوب الليطاني هو الاحتلال الإسرائيليّ.
في معلومات “أساس” أنّ قائد الجيش وفور عودته من باريس قبل نهاية العام، سيصدر تقريراً شاملاً عن عمله في جنوب الليطاني ليعلن الانتهاء منه بحصر السلاح والانتشار وفقاً لخطة الجيش في مرحلتها الأولى. وبعد إعلانه وإعلان الدولة إتمام المرحلة الأولى، سيصدر “الحزب” بياناً يعلن فيه أنه أخلى منطقة جنوب النهر وفقاً لاتفاق وقف الأعمال العدائية، بانتظار أن تلتزم به إسرائيل.
اجتماع باريس: السّعوديّة تحتضن هيكل وتدعم عون المفاوض .







