منذ قيام الثورة الإسلامية في العام 1979، بدأ النظام الإيراني باستغلال الساحة اللبنانية كتربة خصبة لمشاريعه التوسعية، فالحرب الاهلية التي كانت مشتعلة، حينذاك سمحت باللعب على الوتر المذهبي بما يلائم هذه المشاريع المصالح الإيرانية الإقليمية.
وبعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 واحتلاله مناطق واسعة من الجنوب اللبناني شكلت حزاماً أمنياً، بدأ الحرس الثوري نشاطه انطلاقاً من البقاع، لم يكن الهدف بناء علاقة ثنائية؛ بل زرع نواة نفوذ عقائدي طويل الأمد عبر حزب الله تحت شعار تحرير الأرض.
صحيح أن الحزب تمكن من تحقيق التحرير في العام 2000‘ لكن الصحيح أيضاً أن وجوده العسكري، بدأ يتجاوز دوره المقاوم، وبدعم إيراني مفتوح وغير مشروط، لتتضخم ترسانته، ويتباهى بصواريخه، وبالمال النظيف المتدفق إليه.
هذا التأسيس حوّل العلاقة إلى معادلة غير متكافئة: بيروت الرسمية بقيت على هامش القرار، في حين صار حزب الله القناة السياسية والأمنية التي تمر عبرها كل سياسات طهران تجاه لبنان. ومع مرور الزمن، تقلص البعد الدبلوماسي للعلاقة ليحل محله بعدٌ أمني واستراتيجي، جعل لبنان تابعاً في منظومة النفوذ الإيراني الممتدة من بغداد إلى صنعاء، مروراً بدمشق إلى بيروت. وبات الحزب هو من يعين الرؤساء أو يشل البلد.
تحولات العقد الأخير
فقد شهد العقد الأخير تبدلات عميقة، لكنها تتكامل مع مسارٍ أطول بدأ حين خضع لبنان لوصاية سورية واضحة بعد اتفاق الطائف، أبقت على “حزب الله” قوة استثنائية تحت عنوان المقاومة. بعد انسحاب الجيش السوري في العام 2005، ملأت إيران الفراغ سريعاً عبر ذراعها اللبنانية، فانتقل مركز الثقل من دمشق إلى طهران، وتحوّل الحزب إلى اللاعب الأول في السياسة والأمن، واضعاً يده تدريجياً على مفاصل الدولة بمساعدة حلفائه. وتحديدا بعد “7 أيار 2008″، ثم اتفاق الدوحة. ومنذ ذلك الحين، أصبح القرار الوطني أسير النفوذ الإيراني عبر تمدد حزب الله ليمسك بالقرار السياسي والعسكري الوطني ويتحكم بالمؤسسات والإدارات.
غير أنّ التصدّع في هذه المعادلة بدأ مع تزايد عزلة لبنان عربياً ودولياً بفعل تورّط الحزب في معارك خارج حدوده، من سوريا الى اليمن. هذا عدا الأعمال التخريبية المنسوبة إليه، كما هي الحال مع “خلية العبدلي” في الكويت، وموقوفي الحزب في الإمارات.
ومع حرب أكتوبر 2023 وما تلاها من مواجهة شاملة بين إسرائيل ومحور إيران، تلقّى الحزب ضربات موجعة خلال الحرب الأخيرة، وخسر كثيراً من قدرته الردعية، وأتى سقوط نظام الأسد في العام 2024، الذي كان الركيزة الميدانية الأهم لطهران في المشرق، ليشكِّل الضربة الأقصى. اليوم، ومع العهد الجديد للرئيس جوزاف عون وحكومة نواف سلام، بدأ لبنان يتحرك خارج التموضع الإيراني، في محاولة لإعادة ترميم سيادته وبناء سياسة خارجية متوازنة، بالرغم من الضغوط الإقليمية والدولية التي تحيط به من كل جانب.
الخطاب الإيراني المزدوج
في السنوات الأخيرة، تميّز الموقف الإيراني بازدواج واضح بين ما يُقال في بيروت وما يُقال في طهران. فعندما زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي لبنان في يونيو 2025، قدّم خطاباً تصالحياً: “إيران تحترم سيادة لبنان ولا تتدخل في شؤونه”، مؤكداً “الاستعداد لفتح صفحة جديدة”. الكلام بدا دبلوماسياً وهادئاً.
لكن بعد أيام، خرج تصريح من طهران يناقض تماماً هذا الموقف. فقد أعلن مستشار المرشد علي أكبر ولايتي أن “إيران ترفض أي محاولة لنزع سلاح حزب الله”، واعتبرها “مؤامرة تستهدف الشعب اللبناني والمقاومة”. وزارة الخارجية اللبنانية ردّت بلهجة غير معتادة، معتبرةً أن تلك التصريحات “تدخّل مرفوض في الشؤون الداخلية”.
هذا التناقض بين الدبلوماسية في بيروت والصلابة في طهران ليس عَرَضاً؛ بل نهجاً. فإيران تحاول الحفاظ على علاقات شكلية مع الدولة اللبنانية، مع التمسك بسلطتها غير الرسمية عبر الحزب. إنها معادلة تحاول الجمع بين شرعية الدولة وواقع النفوذ.
بيروت تحاول التوازن
في مقابل هذا النهج، تحاول بيروت إرساء منطق “العلاقة من دولة إلى دولة”. فالرئيس عون، خلال لقائه علي لاريجاني في أغسطس 2025، شدد على أن “أي تعاون مع إيران يجب أن يبقى في إطار السيادة المتبادلة”. أما رئيس الوزراء نواف سلام، فأعاد التأكيد أن “لبنان لا يمانع تطوير العلاقات مع إيران، شرط احترام استقلال قراره الوطني”.
لكن هذا الخطاب، بالرغم من أهميته الرمزية، لا يغير كثيراً في الواقع الفعلي للعلاقة. فإيران لا تزال تملك أوراقها داخل الدولة اللبنانية، من السلاح إلى التمويل، الذي بلغ وفق وفد الخزينة الأميركية الذي زار لبنان قبل أيام مليار دولار أميركي، إلى شبكة التحالفات السياسية. ولذا، فإن أي محاولة لتطوير العلاقة ضمن الأطر الرسمية تصطدم دائماً بواقع النفوذ غير الرسمي الذي تمارسه طهران عبر حزب الله.
بين السيادة والمصالح
من منظور السياسة الخارجية، تدرك إيران أن التوازن في لبنان يمر عبر مؤسساته، لكنها تفضّل الإبقاء على قناتها الموازية، معتبرةً حزب الله “ضمانة استراتيجية” و “درة التاج” ولو على حساب الاستقرار الأمني في لبنان. أما بيروت، فترى أن استمرار هذا الواقع يفرغ السيادة من مضمونها، ويُبقي الدولة رهينة قرار لا تملكه.
ومع أن إيران حاولت إظهار انفتاح اقتصادي عبر عروض استثمار في قطاع الطاقة والدواء، إلا أنها تعلم أن هذه المبادرات محدودة التأثير. فأي اتفاق اقتصادي قد يُفسّر دولياً كخرق للعقوبات المفروضة على طهران، وهو أمر لا يمكن أن تقبله بيروت ولا قدرة لها على القبول به.
أفق العلاقة: نحو نديّة مؤجّلة
تراجع النفوذ الإيراني في الإقليم بعد سقوط نظام الأسد، وتبدّل أولويات طهران تجاه جبهات أخرى، فتح نقاشاً داخل لبنان حول ضرورة تحويل العلاقة مع إيران إلى علاقة نديّة قائمة على الاحترام والتبادل، لا على الوصاية. لكن هذه الرغبة تصطدم بواقعين:
أولاً، أن إيران لا تزال تعتبر لبنان جزءاً من “محور المقاومة”، لا دولة مستقلة في سياق إقليمي محايد. وثانياً، أن أي محاولة لبناء علاقة متكافئة تفترض أولاً حسم مسألة السلاح، وهو ما لا تقبله.
بمعنىً آخر، لا يمكن للبنان أن يقيم علاقة ثنائية طبيعية مع إيران قبل أن يُعاد تعريف دور حزب الله داخل الدولة. ما لم يحدث ذلك، ستبقى كل محاولات “فتح صفحة جديدة” مجرّد بيانات دبلوماسية لا تغيّر في بنية النفوذ.
اليوم، تقف العلاقات الإيرانية-اللبنانية عند لحظة اختبار. فبيروت تحاول تثبيت سيادتها، في حين ما زالت طهران تتعامل معها كورقة من أوراق تفاوضها مع الولايات المتحدة وساحة نفوذ ضرورية في استراتيجيتها الإقليمية. وبين الموقفين، تستمر العلاقة في التذبذب بين الشكل الدبلوماسي والواقع القائم على الهيمنة.
أي تطور حقيقي في هذه العلاقة يبقى مرتبطاً بقدرة إيران على التعامل مع لبنان كدولة مستقلة، لا كامتداد لمحورها، وبقدرة الدولة اللبنانية على فرض قرارها داخل مؤسساتها. وحتى يحدث ذلك، سيظل النفوذ الإيراني جزءاً من المعادلة الداخلية، يقيّد حركة الدولة ويمنع قيام علاقة طبيعية بين بيروت وطهران.
إيران ولبنان: علاقةٌ صعبة بين الشكل الدبلوماسي وواقع الهيمنة .






