ما خلا “الحزب”، لا أحد من الأفرقاء اللبنانيّين يمانع التفاوض مع إسرائيل، انسجاماً مع المبرّر الذي ساقه رئيس الجمهوريّة جوزف عون من أن لا خيار سواه ولا بديل منه بعدما جُرّبت الحرب وانتهت إلى خسارة فادحة. تحت قشرة الموافقة المبدئيّة على التفاوض، تكمن العقدة في الطربوش: آليّته، مستواه، شخوصه، مدّته، نتائجه، إلزام تطبيقه…
في معظم مراحل تفاوضٍ أجراه لبنان مع إسرائيل، ثمّة طرف ثالث، وأحياناً أكثر، يُعدّ ضامنَ تنفيذه. كان الحديث دائماً أنّه تفاوض غير مباشر لتخفيف وطأة تقبّله وتبريره وتحمّل تداعياته الداخليّة وإقناع الرافضين له، فيما هو في واقع الحال مباشر ضمناً عندما يكون الطرفان العدوّان جالسين إلى طاولة واحدة في الغرفة نفسها، أحدهما قبالة الآخر. لا يتخاطبان مباشرة، ويتوجّهان بالسؤال والجواب إلى الطرف الثالث، إلّا أنّ كلّاً منهما يحدّق في الآخر ويراقب ردّ فعله وتأهّبه والملفّات التي يقلّبها قبل الردّ بالموافقة أو الرفض. أمامهما الأكواب نفسها، والمياه نفسها، والأوراق والأقلام نفسها. بيد أنّ ما يحصل داخل هذه الغرفة التي يدخلان إليها معاً، كلّ من جهة، ويخرجان معاً عند انفضاض الاجتماع، ليس سوى للقول فقط إنّه تفاوض غير مباشر. حدث ذلك في العقود الأخيرة في مفاوضات اتّفاق 17 أيّار 1983، وفي تفاهم نيسان 1996، وفي الترسيم البحريّ عام 2022.
“الحزب” لا يهضم التّفاوض
لم يقُل رئيس الجمهوريّة جوزف عون بفكرة التفاوض قبل استمزاج رأي رئيسَي البرلمان نبيه برّي والحكومة نوّاف سلام. كان مأمولاً صدور الموقف عن الثلاثة معاً في اجتماع يعقدونه، بيد أنّ سلام، بحسب ما رُوي، لم يشأ الإيحاء باستعادة تجربة الترويكا الرئاسيّة. باستثناء “الحزب”، لم يرفض أحد الفكرة المطلقة التي هي التفاوض فحسب. لاحقاً صوَّب عون تأويلها بالقول إنّه تفاوض غير مباشر، وقدّم برّي تفسيراً له على أن يكون في سياق لجنة “الميكانيزم”.
جدّيّة ما يحدث أنّ ما كان محرّماً في الحقبة السوريّة حتّى الأمس القريب، وهو التفاوض مع إسرائيل، بات في ضوء نتائج الحرب الإسرائيلية على “الحزب” سهل الهضم على الجميع إلّا عليه، لأسباب عقائديّة دينيّة أكثر منها سياسيّة. وربّما مفارقة ما يحدث الآن أنّه مقابل تلازم المسار والمصير الذي أُرغم عليه لبنان في المرحلة السوريّة، فلا يُفاوض إلّا بإذن سوريا أو وهي إلى جانبه كما في مؤتمر مدريد عام 1991 وفي تفاهم نيسان عام 1996، انتقلت “وحدة ساحات” المحور في مواجهة إسرائيل إلى “وحدة ساحات” المحور في الاتّجاه المعاكس مع عرّابين جدد غير أولئك باتوا ينادون بالذهاب إلى السلام مع الدولة العبريّة بمسمّيات مختلفة مخفّفة ومتدرّجة. ليس لبنان وحده يذهب إلى المفاوضات، بل أيضاً سوريا الجديدة وغزّة المهدّمة، على نحوٍ أضحت الخيار الوحيد لإنهاء الحرب بدل الحثّ على الذهاب إليها.
منذ طرح رئيس الجمهوريّة فكرة التفاوض قبل أسبوعين، لم يتلقَّ جواباً إلى الآن على الأقلّ من الطرفين المفترض أنّهما سيكونان إلى الطاولة مع لبنان، وهما الولايات المتّحدة وإسرائيل. لا الأميركيون رحّبوا، ولا الإسرائيليّون تحمّسوا. طرف عربيّ واحد تلقّف المبدأ هو مصر، عندما حضر رئيس استخباراتها حسن رشاد إلى بيروت قبل أيّام والتقى الرؤساء الثلاثة، ويقال أنه عقد لقاءً على مستوى أمنيّ مع مسؤولين في “الحزب”. سمع مغزى العرض اللبناني، بيد أنّه أضاف إليه من عنده بضع أفكار في سياق التداول. لم يحمل مبادرة محدّدة ولا اقتراحات للبنان، وكان من الطبيعيّ ألّا يفعل عندما يعقد اجتماعاً يحضره أكثر من خمسة أشخاص إلى طاولة يُفترض أنّها ستقتصر على الأسرار، خصوصاً عندما يكون الطرف المقابل رئيس جهاز استخبارات.
فعّاليّة الدّور المصريّ
ممّا حمله معه رشاد وأورده أمام محاوريه اللبنانيّين:
- مصر قادرة على التحرّك والاضطلاع بدور فاعل وإيجابي إلى جانب لبنان، يقيناً منها بأنّ الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب مقتنع بالمسار الذي يقوده إلى السلام في المنطقة. في وسعها تولّي ما لا يسع أيّ دولة أخرى القيام به نظراً إلى صلاتها المتشعّبة وتواصلها، بلا تحفّظ، مع أفرقاء الصراع جميعاً، بمن فيهم “الحزب”.
- لدى مصر ضمانات حيال مستقبل غزّة والضفّة الغربيّة نتجت من دورها المشارك في تطبيق خطّة ترامب للقطاع، وهو ما يؤهّلها للاضطلاع بدور بنّاء ومفيد بإزاء لبنان كذاك الدور، والمقصود بذلك البناء على تفاوض لبنانيّ ـ إسرائيليّ.
- أجرى قراءة مسهبة للوضع في المنطقة وغزّة كي يخلص إلى إظهار استعداد بلاده لدور الوساطة الذي قد يحتاج إليه لبنان. مع أنّ اتّفاق وقف النار ينصّ على تفاوض غير مباشر بين لبنان وإسرائيل، بيد أنّ التطوّرات المهمّة التي تلت توقيعه في 27 تشرين الثاني 2024 قلبت المنطقة رأساً على عقب، بدءاً من سقوط النظام السوري الشهر التالي، وصولاً إلى وقف حرب غزّة أخيراً، وهو ما يضع الأفرقاء جميعاً أمام حقائق مختلفة وجديدة.
- ليست خافية المخاوف المصريّة من ضربات إسرائيليّة نوعيّة بغية جرّ لبنان بالقوّة إلى طاولة مفاوضات تبعاً للشروط الإسرائيليّة، القاضية بغطاء سياسيّ للاتّفاق الأمنيّ.
- ما لا تبدو مصر متحمّسة لرؤيته وتبدي انزعاجها منه هو الاعتقاد السائد بأنّ الحال المثاليّة للمنطقة أن تكون إسرائيل هي المهيمنة عليها بدعوى السلام والاستقرار فيها.
- نجح تطبيق خطّة غزّة بفضل علاقة تعاون أرستها مصر رشاد مع موفد الرئيس الأميركيّ ستيف ويتكوف ومستشار الرئيس صهره جاريد كوشنر، اعتمدت القناة الأمنيّة أيضاً مع قادة “حماس” وجهاز الأمن الإسرائيليّ. ذلك ما يتيح لمصر نقل رسائل بين لبنان وإسرائيل بغية التوصّل إلى اتّفاق نهائيّ يوقف النار والأعمال العدائيّة.
رحّب المسؤولون اللبنانيّون بالاستعداد المصريّ للمساعدة دون أن يحمّلوا رشاد موقفاً نهائيّاً، بيد أنّه يأمل الحصول عليه لمباشرة القاهرة تحرّكها تبعاً لجهوز لبنان.
الآليّة عقدة الطّربوش في التّفاوض مع إسرائيل .





