مع أن لبنان كان بدأ يتحسب لانزلاقه إلى أجواء العدّ العكسي لتدهور ميداني تحت وطأة التهديدات المتصاعدة بعملية إسرائيلية واسعة حددت مهلتها في نهاية تشرين الثاني الحالي، غير أن المجريات المفاجئة التي طرأت أمس اتخذت طابعاً مباغتاً خطيراً بفعل تطورين متعاقبين لا يمكن تجاهل ارتباطهما، بمعنى أن أحدهما استدرج الآخر، أقله من حيث التوقيت. التطور الأول، تمثّل في “الكتاب المفتوح” لـ”حزب الله” إلى الرؤساء الثلاثة “والشعب اللبناني” حاملاً ذروة الرعونة في توجيه التحذيرات لرئيس الجمهورية من خيار التفاوض، كما في إمعانه الكارثي في رفض قرارات الحكومة بحصرية السلاح وتمسّكه بالسلاح و”بالمقاومة”، الأمر الذي رسم معالم بالغة السلبية حيال الخدمة المجانية التي وفرتها خطوة الحزب لإسرائيل التي لا تعوزها أساساً الذرائع لشنّ حرب جديدة واسعة على الحزب وعبره على مناطق لبنانية. والتطور الثاني، برز بعد ساعات قليلة من البيان الانقلابي للحزب على الدولة وخياراتها، عبر انقضاض إسرائيل بموجة جديدة من التحذيرات لاهالي بلدات جنوبية ومن ثمّ شن غارات على مواقع مختلفة، ولو أن الجيش الإسرائيلي لم يوجّه إنذارات بإخلاءات شاملة “بعد”. وفيما أشاعت الإنذارات والغارات أجواء ذعر واسعة وطلائع نزوح من العديد من البلدات الجنوبية، فيما أعلنت إدارات المدارس في قضائي صور والنبطية تعليق الدروس اليوم، بدا واضحاً أن الحكم والحكومة وقعا تحت وطأة وضع لعلّه الأخطر إطلاقاً منذ بداية العهد وسط كماشة العدوانية الإسرائيلية والرعونة الكارثية لـ”حزب الله” التي تثير التساؤل المريب حول مآرب إيران التي تقف حتماً وراء تعنّت الحزب وتحديه السافر للحكم والحكومة وغالبية “الشعب اللبناني” الذي توجّه إليه بكتابه أمس.
واعتبر هذا البيان بأنه ضرب بعرض الحائط لقرارات ومواقف الدولة، بدءاً بكلام رئيس الجمهورية جوزف عون في شأن التفاوض وأن لا خيار غيره، إذ اعتبره الحزب “انزلاقاً إلى أفخاخ ومكتسبات للعدو”، وصولاً إلى قرار حصر السلاح بيد الدولة الذي وصفه الحزب بـ”القرار الخطيئة”.
وفي “أدبيات” الحزب عبر البيان أن “التورط والانزلاق إلى أفخاخ تفاوضية مطروحة، فيه المزيد من المكتسبات لمصلحة العدو الإسرائيلي الذي يأخذ دائماً ولا يلتزم بما عليه، بل لا يعطي شيئاً”، واعتبر أن “لبنان ليس معنياً على الإطلاق بالخضوع للابتزاز العدواني والاستدارج نحو تفاوض سياسي مع العدو الصهيوني على الإطلاق، فذلك ما لا مصلحة وطنية فيه وينطوي على مخاطر وجودية تهدد الكيان اللبناني وسيادته”. واشار الى ان “موضوع حصرية السلاح لا يبحث استجابة لطلب أجنبي أو ابتزاز إسرائيلي وإنما يناقش في إطار وطني يتم التوافق فيه على استراتيجية شاملة للأمن والدفاع وحماية السيادة الوطنية”. وأعلن أن “بصفتنا مكوّن مؤسس للبنان الذي التزمناه وطناً نهائياً لجميع أبنائه، نؤكد حقنا المشروع في مقاومة الاحتلال والعدوان”.
وعقب التصعيد الإسرائيلي، اعتبر رئيس الجمهورية جوزف عون أن ما قامت به إسرائيل أمس “يعد جريمة مكتملة الأركان، ليس فقط وفقا لأحكام القانون الدولي الإنساني، بل يعد كذلك جريمة سياسية نكراء، فكلما عبّر لبنان عن انفتاحه على نهج التفاوض السلمي كلما أمعنت إسرائيل في عدوانها على السيادة اللبنانية”. وختم موقفه قائلاً: “وصلت رسالتكم”.
وسط هذه الاجواء الضاغطة ومع تسريبات زعمت أن الوزراء الشيعة الأربعة المحسوبين على الثنائي الشيعي لوّحوا بالاستقالة في حال تعديل قانون الانتخاب لمصلحة انتخاب المغتربين لمجموع النواب، عقد مجلس الوزراء جلسته في بعبدا بعد لقاء بين رئيس الجمهورية جوزف عون ورئيس الحكومة نواف سلام، والتي بدأت بالاستماع إلى التقرير الثاني لقائد الجيش العماد رودولف هيكل حول تنفيذ خطة حصر السلاح في جنوب الليطاني، إذ أفيد أنه عرض بالارقام وقائع ما قام به الجيش خلال الشهر الاخير والعقبات التي لا تزال تواجهه. ومن ثم ارجئ طرح البند المتعلق بملف قانون الانتخاب إلى ما بعد إقرار جدول الأعمال، وبدأ النقاش الانتخابي حول تقرير اللجنة الوزارية التي قدمت ثلاثة اقتراحات. وأفادت المعلومات أن الرئيس سلام طرح من خارج مقترحات اللجنة تعليق المادة 112 على غرار دورتي 2018 و 2022 بدلاً من إلغائها، كما تمديد مهلة تسجيل المغتربين إلى نهاية السنة، كما إقرار فتح مراكز “الميغاسنتر”، وطلب رأي الوزراء في ذلك. وشقّ اقتراح سلام طريقه إلى التصويت فنال أكثرية 17 وزيراً، فيما عارضه الوزراء الشيعة الخمسة بما يعد انتصار مجلس الوزراء بغالبيته لحق المغتربين بالانتخاب لمجموع النواب. وسيحال مشروع الحكومة إلى مجلس النواب بحيث تغدو الكرة بالكامل في مرمى الرئيس نبيه بري.
أما ميدانياً، فكانت القناة 12 الإسرائيلية أعلنت أنّ “الجيش الإسرائيلي يستعد لتدخل عسكري في لبنان بهدف إضعاف حزب الله”. وأشارت إلى أنّ “التدخل الإسرائيلي في لبنان هدفه دفع الحكومة اللبنانية إلى توقيع “اتفاقية مستقرة” مع إسرائيل”. ونقلت القناة عن مسؤولين، قولهم: “لن يُسمح لحزب الله بتعزيز قوته ولن يعود إلى ما كان عليه في السادس من تشرين الأول 2023”.
وبعد ظهر أمس، وجّه الجيش الإسرائيلي إنذارات عاجلة ومتعاقبة إلى سكان بلدات في الجنوب بإخلاء مناطق سيقصفها، بعدما أغار الطيران الحربي الإسرائيلي ظهراً على المنطقة الواقعة بين بلدتي طورا والعباسية- حي الوادي، ما أدى إلى مقتل مواطن وإصابة ثلاثة آخرين بجروح. وبعد توجيه الإنذارات شهدت الطرق العامة لمداخل مدينة صور زحمة سير خانقة. وعلى الاثر، الجيش الإسرائيلي سكان قريتي الطيبة وطيردبا بضرورة إخلاء المناطق المحددة في خرائط مرفقة. كما أنذر سكان بلدة عيتا الجبل قضاء بنت جبيل. وألقى الجيش الإسرائيلي مناشير في عيتا الشعب جاء فيها: “يوسف نعمة سرور قام بتصوير وجمع معلومات استخبارية لصالح حزب الله قرب الحدود، وزعزع استقرار المنطقة. لا تسمحوا لعناصر الحزب بالعمل في محيط منازلكم أو بتعريضكم وأفراد عائلاتكم للخطر!؟”. كما شملت الإنذارات والغارات زوطر الشرقية ثم كفردونين.
وأوضح الناطق باسم الجيش الاسرائيلي أدرعي لاحقاً أنه “خلافًا لبعض الإشاعات المتداولة أننا نحث فقط سكان المباني المحددة في الخرائط وتلك المجاورة لها بضرورة إخلائها ولم نصدر أي بيان حول إخلاء واسع لقرى في جنوب لبنان”.
ونقلت هيئة البث الإسرائيلية عن مسؤول عسكري كبير قوله إن إسرائيل لا تنوي التصعيد في لبنان، ولا تعليمات خاصة لسكان الشمال. وإذ ذكر أن المجلس الوزاري المصغر بحث في التطورات في لبنان، أفادت هيئة البث الإسرائيلية أن إسرائيل تقول إن هجماتها في لبنان تتم بتنسيق مع الجانب الأميركي المتواجد في مقر القيادة الشمالية للجيش والقوات الإسرائيلية تستعد لاحتمالات عدة، منها إمكانية رد “حزب الله” واستمرار التصعيد لأيام.
“تحمية” إسرائيلية خطيرة بعد تهديد “الحزب” الانقلابي… مجلس الوزراء ينتصر للمغتربين في الانتخاب الكامل .






