لا يكاد يمر يوم إلا ويتعرّض أحد أفراد “حزب الله” لاستهداف اسرائيلي. ولا يمرّ يوم واحد إلا وتجوب فيه المسيرات الاسرائيلية في سماء لبنان من جنوبه حتى عاصمته، التي هدّدها وزير الدفاع في الحكومة الاسرائيلية بقصفها. ولا يمرّ يوم إلا وتصل إلى المسؤولين في الدولة تحذيرات عربية وغربية من أن تل أبيب ماضية في مخططها التفجيري. وهذا ما كان يقوم به آموس هوكشتاين قبل الحرب المدمرة، التي شنها العدو ضد لبنان، وبالتحديد ضد مواقع “المقاومة الاسلامية” والقرى التي كانت تتحصّن بها.
في المقابل لا يمرّ يوم إلا ويتبلغ به لبنان “نصائح” عربية وغربية بضرورة استمرار الجيش بما يقوم به لجهة تنفيذه ما التزمت به الحكومة بالنسبة إلى موضوع حصر السلاح في المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني كمرحلة أولى، على أن تليها خطوات لاحقة شمال الليطاني، وفي كل لبنان.
فرسائل التنبيه وصلت إلى بيروت من الأميركيين والأوروبيين والعرب، والجميع متفقون على أن إسرائيل تتصرّف من دون رادع، وأن لا أحد يستطيع الوقوف في وجهها. وهذا ما يزيد من المخاوف الدولية والعربية من انفجار الوضع في الجنوب. وآخر المتخوفين كانت روسيا التي دخلت على الخطّ، إذ لا تقتصر الخشية الروسية على الجنوب فحسب، بل تشمل كل لبنان، انطلاقًا من التجارب السابقة.
ففي خضمّ كل هذه التناقضات التي تلفّ المشهد اللبناني، تتقاطع اليوم ثلاثة مؤشرات تحمل دلالات عميقة على مصير البلاد في المرحلة المقبلة: تصريحات توم براك التي وصف فيها لبنان بـ “الدولة الفاشلة”، وتهديدات وزير الدفاع الإسرائيلي بقصف بيروت “إذا اقتضى الأمر”، والزيارة المرتقبة للبابا لاوون الرابع عشر تحت عنوان “السلام والرجاء.”
ثلاث محطات متباعدة في الشكل، لكنها تتلاقى في مضمون واحد، وهو أن لبنان يقف مجدداً على حافة الخيارات الصعبة بين الحرب والديبلوماسية، بين اليأس والرجاء.
فكلام براك لم يأتِ من فراغ، بل يعكس نظرة دولية متزايدة إلى لبنان بوصفه دولة تعاني انهياراً مؤسساتياً واقتصادياً عميقاً، وانقساماً سياسياً يجعلها عاجزة عن بسط سلطتها على أراضيها. هذه النظرة لا تكتفي بالتوصيف، بل تُمهّد أحياناً لتبرير ضغوط خارجية أو حتى تدخلات غير مباشرة، خصوصاً عندما تترافق مع تصعيد عسكري أو توترات على الحدود الجنوبية.
في المقابل، جاءت تهديدات وزير الدفاع الإسرائيلي لتعيد إلى الواجهة هاجس الحرب، وتذكّر اللبنانيين بأنّ الاستقرار القائم هشّ إلى حدّ يمكن أن ينهار في أي لحظة. فإسرائيل، التي تتحدث عن “ضرب البنية التحتية للمقاومة”، لا تُخفي أن بيروت نفسها قد تكون هدفاً، وهو ما يعيد إلى الأذهان مشاهد عام 2006 بكلّ مآسيها.
ووسط هذا السواد، يصل البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان نهاية هذا الشهر، حاملاً معه رسالة سلام في زمن تتكاثر فيه التهديدات. هذه الزيارة، بما تمثّله من رمزية دينية وإنسانية، ليست حدثاً روحياً فحسب، بل قد تكون أيضاً فرصة ديبلوماسية ثمينة لإعادة تسليط الضوء على دور لبنان الرسالي في الشرق، وعلى ضرورة حمايته من الانزلاق مجدداً إلى دوامة العنف.
لطالما اعتبر الفاتيكان لبنان “أكثر من وطن، إنه رسالة”، وهذه العبارة تكتسب اليوم معنى مضاعفاً، إذ أن حماية لبنان ليست فقط مسؤولية اللبنانيين، بل مسؤولية المجتمع الدولي بأسره. فهذه الزيارة يمكن أن تشكّل نقطة التقاء بين القوى السياسية المتنازعة، ومناسبة لإطلاق نداء جامع من أجل تثبيت السلم الأهلي ورفض منطق الحرب.
التحليلات الأمنية تشير إلى أن احتمالات اندلاع حرب شاملة تبقى متوسطة إلى منخفضة، نظراً إلى تداعياتها الكارثية على المنطقة بأكملها، ولأنّ إسرائيل، على رغم تهديداتها، تدرك أن أي حرب طويلة في لبنان قد تستنزفها استراتيجياً. لكن الخطر الحقيقي يكمن في الانزلاق العرضي، قد يتمثّل بحادث حدودي، أو استهداف غير محسوب، أو سقوط ضحايا مدنيين قد يشعل فتيل مواجهة لا يريدها أحد، لكن لا أحد يقدر على وقفها.
إن وضع لبنان الحالي هشّ جداً أمام أيّ اهتزاز. الدولة ضعيفة، والاقتصاد متداعٍ، والجيش يواجه تحديات لوجستية، بينما القوى السياسية غارقة في صراعاتها. كل ذلك يجعل من أي توتر حدودي شرارة محتملة لاحتراق شامل.
ولكن في مقابل منطق الحرب، هناك فرص واقعية للحلول، إذا أحسن اللبنانيون إدارة اللحظة، ومن بينها:
أولًا، إطلاق مبادرة تهدئة دولية عبر الأمم المتحدة والولايات المتحدة ومصر وقطر، تُعيد تثبيت قواعد الاشتباك وتمنع أي تجاوز حدودي غير محسوب.
ثانيًا، دعم دور الفاتيكان والقيادات الدينية في ترسيخ خطاب الوحدة والعيش المشترك، خصوصاً خلال الزيارة البابوية، لتحويلها إلى مساحة لقاء وطني ورسالة رجاء تتجاوز الانقسامات.
فبين التصريحات المقلقة والتهديدات الخطيرة والزيارات الملهمة، يعيش لبنان لحظة مفصلية من تاريخه. فإما أن ينجح في تحويل الخوف إلى فرصة لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة من الوحدة والسيادة، وإما أن يغرق مجدداً في فوضى لا تُبقي ولا تذر.
ما أشبه اليوم بالأمس…هل تعود الحرب؟ .



