ليس أمام الحكومة و”الحزب” إلا الحصول على تعويذة تجلب الحظ، أو الرهان على صلاة شبيهة بـ”صلاة الاستسقاء” التي نشهدها هذه الأيام، لعلنا نمنع حرباً باتت حتمية عاجلاً أو آجلاً
للصدفة، هناك اليوم مشهدان متشابهان، في الشكل على الأقل، في لبنان كما في إسرائيل: في لبنان، يجتمع مجلس الوزراء ويستمع إلى التقرير الشهري الثاني من الجيش، حول ما نفّذه حتى اليوم من خطته لنزع سلاح “حزب الله”. وفي إسرائيل أيضاً، يجتمع مجلس الوزراء ويدرس أيضاً خطة الجيش هناك، لاستئناف القتال ضد “حزب الله”.
إذاً، “حزب الله” هو موضوع البحث الطارئ في البلدين على خطّي التماس. ولكن، هنا ستستمع الحكومة إلى خطة شكلية وباردة لن تصل فعلاً إلى نزع سلاح “الحزب”. وأما هناك، فالحكومة ستدرس خطة فعلية وساخنة جهّزها الجيش لتوسيع الضربات الجوية والبرية على “الحزب” يُراد منها أن تدمر ما بقي من ترسانته.
في لبنان، يقول المسؤولون: “حزب الله” متجاوب تماماً ولا مشكلة معه. وهو ملتزم بكل ما هو مطلوب منه في جنوب الليطاني، حيث يتسلّم الجيش مخازنه وأنفاقه ويصادرها أو يدمرها. وأما في إسرائيل فيقول المسؤولون: “حزب الله” يناور ويعيد بناء قدراته، ويحصل على المزيد من الأسلحة من خلال الحدود الشرقية، سواء في جنوب الليطاني أو في شماله. والمثير أنّ “حزب الله” نفسه يساعد إسرائيل على تأكيد “الاتهام” إذ يعلن فعلاً أنه يخرج شيئاً فشيئاً من النكسة التي تلقاها في حرب العام الفائت. ويقول أمينه العام الشيخ نعيم قاسم إنّ هناك طرقاً عدة لاستعادة التموين بالسلاح والذخائر. وفي أي حال، يعلن السوريون بين حين وآخر أنهم صادروا في سوريا شحنات سلاح كانت مرسلة إلى “الحزب” في لبنان. وخلاصة هذا كله أنّ إسرائيل لا تجد صعوبة في إقناع الولايات المتحدة والغربيين والعرب بأنّ “حزب الله” يعيد بناء قدراته، واستغلال ذلك للحصول على تغطية في أي حرب تقرر شنّها عليه.
الدولة اللبنانية تحاول الهرب من هذه الحقائق العسكرية المثيرة للقلق. وليس أمامها إلا الدخول في مسار التفاوض مجدداً مع إسرائيل، لعل المفاوضات تنتهي بنتائج تغيّر الوقائع والمعادلات، وتتضمن آلية تفرض التنفيذ على كل الأطراف، بما فيها “حزب الله”. وهذا ما دفع الرئيس جوزاف عون إلى اعتبار التفاوض خياراً لا مفر منه. والواضح أنّ هناك تفاهماً بين أركان السلطة في لبنان على مبدأ التفاوض، على الأقل من خلال تطعيم الميكانيزم بمدنيين، على أن يتم البحث لاحقاً في الشكل المناسب للمفاوضات.
ولكن، يبدو أنّ لبنان قد تأخر كثيراً في الرد على دعوات التفاوض المباشرة التي وجهتها إسرائيل من خلال الوسطاء الأميركيين، إلى حد أنّ الحكومة الإسرائيلية اتجهت إلى التفكير في خيارات أخرى. فقد تراجع حماسها للمفاوضات مع لبنان، حتى المباشرة، وباتت تقول: لماذا نتفاوض معكم؟ نحن سنطلب منكم ما نريد وستنفذون. لا خيار لكم سوى ذلك.
وبالفعل، ليس لدى لبنان أي خيار إلا أن يلتزم ما تطلبه إسرائيل، لأنّ حزب الله هو المهزوم في الحرب، وهو يتلقى الضربات المكلفة يومياً، بأرواح كوادره ومقاتليه وبترسانته العسكرية، من دون أن يردّ بطلقة رصاص واحدة. وأما الحكومة المحشورة بين رفض “الحزب” تسليم السلاح وإصرار إسرائيل على نزعه، فليس لها أي باب تطرقه إلا طلب النجدة من الأميركيين، لعلهم يقفون معها. لكن ردود واشنطن جاءت واضحة، وتعبر عنها بوضوح شديد، عبر توم باراك ومورغان أورتاغوس وميشال عيسى وليندسي غراهام وآخرين، وبشماتة أحياناً: فعلنا لكم الكثير. أنتم متخاذلون. دولة فاشلة. لا تلتزمون بوعودكم. تريدون منا أن نساعدكم فيما أنتم لا تبذلون أي جهد لنزع سلاح “حزب الله” تطبيقاً لاتفاق وقف النار. وإذا كان “الحزب” نفسه يعلن أنه استعاد جزءاً من قدراته، فكيف نقنع إسرائيل بأنه فعلاً سيتخلى عن سلاحه، وأنه لم يعد يشكل تهديداً لمناطقها الشمالية؟ وكيف نطلب منها أن تتجنّب شنّ حرب جديدة عليه؟
وفي الواقع، وفيما الدولة اللبنانية تراهن على الحظ للنجاة من حرب إسرائيلية جديدة، يقدم الإسرائيليون إلى واشنطن خطة متكاملة وتفصيلية للحرب الجديدة على “حزب الله”، كما يفعلون غالباً. وقد طلبوا منها الضوء الأخضر للتنفيذ.
ما تردد عبر وسائل إعلام إسرائيلية هو أنّ واشنطن طلبت من إسرائيل التريث في تنفيذ أي تحرك في لبنان حتى نهاية الشهر الجاري. وليس واضحاً إذا كان هذا الموقف يعني أنّ واشنطن منحت إسرائيل الضوء الأخضر لتنفيذ الضربات الواسعة بعد أسابيع قليلة، لكن المؤكد أنّ موقف واشنطن من نهج الحكومة اللبنانية و”حزب الله” هو نفسه تقريباً. وللتذكير، أورتاغوس شاركت أركان وزارة الدفاع والجيش رصدهم للضربات التي نفذوها ضد “حزب الله” على الحدود، قبل أن تنتقل إلى لبنان في زيارتها الأخيرة. فماذا يعني هذا كله؟ وما انعكاسه على لبنان الدولة، وعلى “الحزب”؟
قبل أي شيء، هذا يوضح حجم الهوة السحيقة في موازين القوى بين لبنان وإسرائيل. فهي تستطيع أن تقول وتفعل، وأما لبنان فهو عاجز تماماً على المسارين: مسار الحرب الكبيرة التي لا يجرؤ على التسبب بها، ومسار المفاوضات المباشرة والمفتوحة التي لا يُسمح له بقبولها والانخراط فيها، كما تفعل مثلاً حكومة أحمد الشرع في سوريا.
وفيما تستمع واشنطن إلى شكاوى لبنان وهواجسه على مضض، ولا تعرف كيف تتعاطى معها، فإنّ إسرائيل تذهب إلى الأميركيين بطلباتها العملانية: نريد دعماً مادياً وتغطية سياسية للحرب. وهي تحصل على ما تريد. ولذلك هي تستطيع في لبنان أن تفتح النار حين تشاء، وحيث تشاء، وعلى من تشاء. وكل ما يمكن أن “تخدمنا به” واشنطن هو أن تتمنى على إسرائيل التريث بضعة أيام أو أسابيع لضرورات معينة.
قد يكون الهدف من طلب التريث هو إمرار زيارة البابا للبنان، أو ربما منح لبنان بعض الوقت الإضافي، لعله يرضخ في السياسة من دون الحاجة إلى الضربة الساحقة. ولكن، في أي حال، ليس أمام الحكومة و”حزب الله” إلا الحصول على تعويذة تجلب الحظ، أو الرهان على صلاة شبيهة بـ”صلاة الاستسقاء” التي نشهدها هذه الأيام، لعلنا نمنع حرباً باتت حتمية عاجلاً أو آجلاً.
“صلاة الاستسقاء” لمنع الحرب! .




