يعيش لبنان اليوم على إيقاع إقليميّ متقلّب، تتقاطع فيه الحسابات الأمنية مع الرسائل السياسية بين واشنطن وتل أبيب وطهران. فبينما تسعى إسرائيل إلى تثبيت معادلة ردع جديدة على حدوده الشمالية، تواصل إيران استخدام «حزب الله» كذراع ميدانية في لعبة النفوذ الممتدّة من الجنوب اللبناني إلى البحر الأحمر. وفي المقابل، تكثف الولايات المتحدة تحرّكاتها الدبلوماسية والعسكرية في المنطقة، محذرةً من الانزلاق إلى حربٍ جديدة شاملة قد تطيح بما تبقى من توازنٍ هش. أما في الداخل اللبناني، فالوضع الأمني لا يزال رهينة التجاذبات السياسية وتضارب الولاءات الإقليمية، في ظلّ جيشٍ يحاول الحفاظ على الاستقرار ضمن إمكاناتٍ محدودة، واقتصادٍ مأزومٍ يضاعف هشاشة الدولة. ومع تزايد الحديث عن فرص وقف إطلاق نارٍ دائم بين لبنان وإسرائيل، يجد البلد نفسه أمام مفترقٍ تاريخي: إمّا تثبيت السيادة وبناء مؤسّساتٍ قادرة على احتواء السلاح غير الشرعي، أو الانزلاق مجدّدًا إلى دوّامة الانقسام والارتهان.
وفي هذا السياق، وخلال زيارة جديدة إلى بيروت ضمن جولةٍ إقليمية شملت إسرائيل وعددًا من العواصم، تحدّث السفير الأميركي السابق في لبنان ديفيد هيل، وهو باحث بارز في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، إلى «نداء الوطن» في مقابلةٍ موسّعة تناولت رؤيته للوضعين السياسي والأمني في لبنان، والموقف الأميركي من المرحلة الإقليمية الدقيقة، والعلاقة بين دعم الجيش اللبناني ومسار نزع سلاح «حزب الله»، وصولًا إلى الإصلاحات المطلوبة لاستعادة الثقة الدولية بالاقتصاد اللبناني.
استهلّ هيل حديثه بالتأكيد أنه، بعد تقاعده من السلك الدبلوماسي الأميركي، لا يتحدّث باسم الحكومة، «بل بصفتي الشخصية، وإن كان معهد الشرق الأوسط هو الجهة التي رعت زيارتي إلى المنطقة». وأشار إلى أنه زار لبنان في حزيران الماضي، وعاد إليه اليوم بعد زيارةٍ إلى إسرائيل قبل أسبوعٍ ونصف الأسبوع ، مضيفًا: «يسعدني دائماً أن أعود إلى بلدٍ أكن له الكثير من الاهتمام». ويؤكد هيل أن في واشنطن «درجة كبيرة من النوايا الحسنة عبر الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لدعم تثبيت وقف النار، والقيام بكل ما يمكن لتحسين الأوضاع في لبنان، ولشعبَي لبنان وإسرائيل على حد سواء». ويرى أن هذا الالتزام الأميركي تجاوز المألوف، مشيرًا إلى أن انخراط شخصيات مثل مورغان أورتاغوس وتوم برّاك، اللذين يتحدثان مباشرة باسم الرئيس الأميركي، «ليس أمرًا عاديًا، بل يعكس عمق الالتزام الأميركي بمساعدة لبنان». وفي موازاة الملف الأمني، شدّد هيل على أن واشنطن تولي أهمية قصوى للإصلاحات الاقتصادية والمالية التي «يعرف الجميع أنها ضرورية للخروج من أزمات السنوات الأخيرة». ويربط بين المسارين السياسي والاقتصادي قائلاً: «كلّما نجح لبنان في ترسيخ الاستقرار واستعادة سيطرة الدولة على السلاح والحدود، ازدادت قدرة المجتمع الدولي على المساهمة في إنعاش اقتصاده».
حول خطر التصعيد
ويرى هيل أن خطر التصعيد لا يزال قائمًا، «لكنّه ليس حتميًا». ويقول: «عندما كنت في إسرائيل، لم أسمع من المسؤولين هناك أيّ رغبة في الإضرار بلبنان. على العكس، لمست ثقة بقدرة القيادة اللبنانية، من الرئيس جوزاف عون إلى رئيس الحكومة نواف سلام وسواهما، واهتمامًا واضحًا بمواصلة الانخراط الأميركي». لكنه يحذر من أن إسرائيل «قد تتصرّف من جانبٍ واحد إذا رأت أن الجيش اللبناني لا يتحرّك بسرعة كافية لاستعادة السيطرة ونزع سلاح «حزب الله»، وهو أمر ليس في مصلحة أحد».
ويضيف: «أفضل وسيلة لتجنب العودة إلى الدمار هي في تنفيذ التزامات وقف النار من الطرفين. فإذا التزمت الدولة اللبنانية بما تعهّدت به، يمكن تفادي التصعيد».
دعم الجيش ونزع سلاح «حزب الله»
يؤمن هيل بأن دعم الجيش اللبناني ونزع سلاح «حزب الله» مساران مترابطان. «لا يمكن الفصل بينهما»، ويذكّر بأنّ الولايات المتحدة «استثمرت في الجيش اللبناني منذ عقود»، وأن فترة ولايته كسفير شهدت «تكثيفًا في المساعدات خلال مواجهة خطر داعش القادم من سوريا، حين أظهرت واشنطن أنها مستعدة لمساندة لبنان». ويضيف: «لقد آمنا دائمًا بقدرات الجيش وبنزاهته، واستمرّ دعمنا رغم كلّ الظروف، كما شجّعنا دولاً عربية وشركاء مثل بريطانيا على تقديم الدعم أيضاً».
لكنه يشير إلى أن «القرارات في النهاية سياسية. فالجيش لا يمكنه اتخاذ قرارٍ بمفرده في نظامٍ يقوم على تقاسم السلطة الطائفية. المطلوب أن يتخذ القادة اللبنانيون القرارات الشجاعة التي تمكّن الجيش من أداء مهمته». ويؤكد أن الجيش هو «الجهة الشرعية الوحيدة المؤتمنة على السيادة اللبنانية».
إسرائيل، إيران والمتغيّرات الإقليمية
ويعتبر هيل أنّ إسرائيل «لا تسعى إلى احتلال الأراضي اللبنانية، بل ما تقوم به هو تحرّك تكتيكي مرتبط بعدم تنفيذ وقف إطلاق النار بالكامل». ويرى أن الطريق الوحيد لضمان انسحابها «هو التزام لبنان مسؤولياته وتعهداته». ويقرّ بوجود «خروق من الطرفين»، لكنه يرفض «لعبة تبادل الاتهامات»، قائلاً: «على كلّ طرف أن يفي بالتزاماته، لأن التنفيذ المتبادل هو وحده الكفيل بترسيخ الاستقرار».
وفي تحليل أوسع، يربط هيل بين التطوّرات الأخيرة في لبنان والمنطقة: «من كان يتوقع قبل عام فقط هذا الكمّ من التحوّلات؟ تراجع نفوذ «حزب الله» نتيجة العمليات الإسرائيلية وأخطائه، تهاوي النظام السوري، وانكفاء إيران. كلّها عناصر مترابطة». ويضيف: «لطالما فرضت إيران إيقاع الحرب والسلام في الشرق الأوسط. لكن ذلك تغيّر بفضل العملية التي نفذتها إسرائيل والولايات المتحدة ضد برنامجها النووي».
وحين أُبلغ بتصريح الرئيس الإيراني الأخير عن استئناف الأنشطة النووية، قال هيل: «يمكنهم قول ما يشاؤون، وقد يحاولون ذلك، لكن المحظور قد كُسر. لم يعد استخدام القوة العسكرية ضد البرنامج النووي الإيراني من التابوهات. وأثبتت التجربة أن طهران عاجزة عن الردّ عسكريًا». متابعًا «قد تحاول إيران على المدى الطويل استعادة قدراتها النووية، وسنتعامل مع ذلك عسكريًا إذا اضطررنا. لكن في الوقت الراهن، لم تعد المحرك الأساسي في المنطقة، وهذه فرصة نادرة لترسيخ السلام واستعادة السيادة في لبنان وسوريا».
نحو سلامٍ دائم
ويرى هيل أن لبنان قادر على تحويل وقف النار إلى سلامٍ دائم: «إذا تمّ تنفيذ الاتفاق بالكامل، علينا التفكير في الخطوة التالية: كيف نجعل هذا السلام دائمًا؟ يمكن للبنان أن يستفيد من تجربة مصر والأردن، اللتين حافظتا على استقرارٍ بفضل معاهدات السلام». ويشير إلى أن «لبنان لا يواجه نزاعًا حدوديًا مثل سوريا، بل مشكلة أمنية وإرثًا من الحروب والدمار، لكن السلام ممكن».
الإصلاحات الاقتصادية والثقة الدولية
وفي الملف الاقتصادي، اعتبر هيل أن تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان «خطوة واعدة»، إذ «أثبت في الاجتماعات الأخيرة لصندوق النقد والبنك الدولي أنه يدرك حجم المشكلة، وأنه عازم على ضبط السوق السوداء، ووقف تدفق الأموال غير الشرعية التي تموّل «حزب الله» وغيره، وإعادة سيطرة الدولة على النظام المالي». ويضيف هيل في حديثه مع «نداء الوطن» أن «القطاع المصرفي هو عماد الاقتصاد اللبناني، ولا يمكن النهوض بالاقتصاد إذا لم يُصلَح هذا القطاع». ويرى أن المشكلة ليست في نقص الخبرات، «فاللبنانيون من أفضل الماليين والاقتصاديين في العالم، لكن غياب الإرادة السياسية هو ما يعيق الحل». ويشدّد على أن «الأميركيين والأوروبيين وبعض العرب يريدون المساعدة فعلًا، لكن الاستثمارات الكبرى لا تأتي إلا في مناخ سلام، لا في ظلّ هدنة موقتة، معاهدات السلام تدوم، أمّا وقف النار فلا».
الجيش اللبناني والقيادة الأميركية
وتحدّث هيل بإيجابية عن العماد جوزاف عون، مؤكدًا أن «الولايات المتحدة عملت معه منذ سنوات طويلة، سواء عبر القنوات العسكرية أو السياسية أو في الكونغرس، والجميع يقدّر كفاءته وصدقيته. وأضاف إن العماد عون «بنى مستوى عاليًا من الثقة مع واشنطن»، وأن «المسؤولين الأميركيين يريدونه أن ينجح». لكنه أوضح أن نجاحه «مرتبط بقدرته على التعامل مع التركيبة السياسية المعقدة، وضمان عدم شعور أي طائفة بالتهميش». وقال هيل إن «حزب الله»، كميليشيات وتنظيم إرهابي، يجب أن يختفي، لكن يجب في الوقت نفسه ألا تشعر الطائفة الشيعية بأن مكانتها في لبنان مهددة. فهي جزء أساسي من النسيج الوطني، ومن حقها المشاركة في السلطة وفي المكاسب الوطنية». مشيرًا إلى أنه «من المهم أن لا يُنظر إلى أي حزب لبناني على أنه يمثل حكومة أجنبية، وهذه هي المعضلة الجوهرية لدى «حزب الله».
دروس التاريخ والكتاب الجديد
تطرّق هيل إلى كتابه الجديد الذي يروي مسيرته الطويلة في المنطقة «كنت في لبنان منذ أوائل التسعينات، ثم في الألفينيات، ولاحقًا كسفير بين عامي 2013 و2015. رأيت البلد في مراحل مختلفة، ولاحظت أنماطًا متكررة في سلوك الولايات المتحدة تجاهه». ويقول إن «الأميركيين ينسون أحيانًا دروس التاريخ، أحد هذه الدروس هو أننا نفتقر إلى المثابرة. نتدخل لحل مشكلة، نريد نتائج سريعة، فإذا لم نحققها، ننسحب وننسى». ويكمل هيل في حديثه إلى «نداء الوطن» منبهًا من أن «العبرة اليوم هي الاستمرار، لا يجب أن نعتبر وقف النار نصرًا ونغادر، فعندما نفعل ذلك، تملأ إيران و»حزب الله» الفراغ. يجب أن نبقى منخرطين، من دون طموحات مفرطة، ولكن بثبات».
لبنان في الوجدان الأميركي ورسالة إلى اللبنانيين
ويقرّ هيل بأن اهتمام الرأي العام الأميركي بلبنان محدود، «لكن كلّ من يهتمّ بسياسة واشنطن في الشرق الأوسط عليه أن يتابع العلاقة الأميركية – اللبنانية، لأنها تحمل دروسًا عن المثابرة، وعن أهمية القيادة والشخصيات القادرة على بناء الجسور وتحقيق المنفعة المشتركة». لا تغيب النبرة الشخصية في ختام حديثه، يتحدث هيل عن موقع لبنان بالنسبة له «كان جزءًا كبيرًا من حياتي. أكن إعجابًا هائلاً للشعب اللبناني الذي تحمّل الكثير من الألم، ومع ذلك يواصل الإبداع في العلوم والسياسة والفنون». ليكمل قائلًا إن «لبنان لم يتخذ قراراته بنفسه منذ اندلاع الحرب الأهلية. الآن حان الوقت ليقرر مصيره بيده. قد يبدو ذلك مقلقًا، لأنه يتطلّب تسويات صعبة، لكنكم قادرون على ذلك. هذه لحظتكم، وهذا اختباركم».
هيل : إسرائيل تثق بقدرات المسؤولين اللبنانيين .




