لا تملك الدولة في تعاطيها مع المواجهة المستمرّة بين إسرائيل و “حزب اللّه” سوى خيارين لا ثالث لهما: إما أن تُقدم على نزع سلاح “الحزب” تطبيقًا للدستور والتزامًا بالقرارات الدولية وتنفيذًا لقرار مجلس الوزراء الصادر في 5 آب الماضي، أو أن تُعلن فك الارتباط التام مع “الحزب” بإعلان عدم علاقتها نهائيًا بالحرب الدائرة بينه وبين إسرائيل، وهذا هو الواقع.
لكن المؤسف أن الدولة لا تكتفي بعدم تنفيذ القرار الذي اتخذته في الخامس من آب بنزع السلاح غير الشرعي، بل تعمد إلى مخالفته من خلال تبني ذرائع “حزب اللّه” بأن إسرائيل تستهدف لبنان وتخرق اتفاق 27 تشرين. ولم تكتفِ باللجوء إلى الشكاوى لدى مجلس الأمن، وهي خطوة في غير محلّها، بل ذهبت إلى حدّ نقل المواجهة إلى حضنها، فيما هي مجرّد “شاهد ما شفش حاجة”.
إن خطورة ما تقوم به الدولة أنها حوّلت نفسها إلى متراس لـ “حزب اللّه”، وهذا تحديدًا ما يريده “الحزب” بتحويله المواجهة وكأنها بين لبنان وإسرائيل، وهي ليست كذلك، إنما محصورة بـ “الحزب” وأجندته الإيرانية. فضلًا عن أنها تفوِّت على نفسها فرصة التخلُّص من الميليشيا التي تمنعها من ممارسة دورها، وتُبقي لبنان ساحة حروب ومن دون مساعدات ولا استثمارات، في ظلّ موقف خارجيّ صارم يربط المساعدات باحتكار الدولة السلاح.
لا يحق للدولة أن تقول الجملة وعكسها: أن تقرّ بوجوب نزع السلاح غير الشرعي وتنفيذ الدستور، ثمّ تتموضع في الخندق نفسه مع “الحزب” في المواجهة مع إسرائيل. وأن تعلن أن “الحزب” ورّط لبنان بإعلانه الحرب ضدّ إسرائيل، ثمّ تتبنى سرديّته بأن تل أبيب لا تنفِذ التزاماتها. بإمكان الدولة أن تقول بصراحة تامة إنها ترفض نزع السلاح بالقوّة تجنبًا لمواجهة لا تريدها، وأنها تكتفي بقرار نزع السلاح وعدم السماح باستخدامه، ولن تذهب أبعد من ذلك في التنفيذ، لكن ليس من حقها إطلاقًا تشجيعه على التمسُّك بسلاحه من خلال تبنيها وجهة نظره.
وإذا كانت الدولة تشعر بأنها عاجزة عن تنفيذ دستورها وقراراتها، فعليها أن تقف على الحياد في المواجهة الدائرة بين إسرائيل و “حزب اللّه”، بل من مسؤوليتها أن تحمِّل “الحزب” مسؤولية استمرار الضربات الإسرائيلية، من أجل رفع منسوب الضغوط عليه للتخلّي عن سلاحه، لا أن تُريحه كما تفعل اليوم، خصوصًا أنها تعلم أن تل أبيب لن توقف حربها على لبنان قبل أن تتأكّد من إزالة خطر “حزب اللّه” عليها، وهذا يعني أن من مصلحتها التخلُّص من سلاح “الحزب” للتخلُّص من الهجمات الإسرائيلية، وإلا سيبقى هذا الوضع على حاله حتى تقرِّر إسرائيل شن حربها الثانية بعد حرب أيلول 2024.
لم تكن الدولة في عهد الرئيس الياس سركيس ووزير الخارجية فؤاد بطرس في حرب مع إسرائيل، إنما وجدت في اجتياح إسرائيل لبنان عام 1982 فرصة للتخلُّص من المقاومة الفلسطينية التي كان يستحيل القضاء عليها إلّا عن طريق الجيش الإسرائيلي، وتعاملت مع الاجتياح باعتباره الفرصة الوحيدة لإعادة بناء دولة لبنانية فعلية. ولو لم يحصل ذلك، لكان الفصل الأول من الأزمة اللبنانية ما زال مستمرًا حتى اليوم، وذلك بمعزل عن الأخطاء التي ارتكبت خارجيًا وداخليًا والتي حالت دون إنهاء الأزمة اللبنانية.
ولا يختلف الوضع الذي نشأ في لبنان بعد العام 1990 مع “حزب اللّه” عن الوضع الذي نشأ مع المقاومة الفلسطينية بين عامي 1967 و 1982، إذ يستحيل التخلُّص منه إلّا عن طريق إسرائيل. والدليل أنه رغم كل ما أصاب “الحزب” من ضربات استراتيجية، لا تجرؤ الدولة على إنهاء وضعيّته العسكرية التي تمنع قيام دولة في لبنان.
وقد لا توافق الدولة علنًا على ما قاله السيد توم برّاك من أن “نزع سلاح “حزب اللّه” يؤدي إلى وقف العمليات الإسرائيلية”، إلّا أنها تعلم ضمنًا وجيدًا أن كلامه صحيح، وأن إسرائيل لا تستهدف لبنان بل “الحزب”، وأن مشكلتها مع لبنان تتمثل في وجود “حزب” يستخدم الأراضي اللبنانية للاعتداء عليها وعلى أمن شعبها. وتُدرك أيضًا دقة قوله إنه “لن تكون هناك مشكلة بين لبنان وإسرائيل إذا تمّ نزع سلاح حزب اللّه”، فمن ينسحب من لبنان عام 2000 لا يريد شيئًا منه، فضلًا عن أن اتفاقية الهدنة أسقطت من الجانب اللبناني لا الإسرائيلي. وجلّ ما تريده إسرائيل هو تحقيق أمنها على حدودها الشمالية، وهذا حق من حقوقها البديهية، وعلى الدولة اللبنانية ألّا تسمح لأي فصيل باستخدام أراضيها تنفيذًا لأجندته، وإذا كان من مواجهة مع إسرائيل لسبب معيّن، تخوضها الدولة وحدها وليس هذا الفصيل أو ذاك، وقد أسقطت الحرب حجّة أن “المقاومة” قادرة والدولة عاجزة، وأظهرت أن “المقاومة” عاجزة ووجودها هو المشكلة بعد نفسها.
وتعلم الدولة علم اليقين أن دورها سيبقى مشلولًا ومغيّبًا ومصادرًا، وستبقى محرومة من المساعدات الخارجية، ومعرّضة للهجمات الإسرائيلية المتواصلة ما لم يتخلَّ “حزب اللّه” عن مشروعه المسلّح. فما معنى هذا المشروع الذي أسقطت الحرب كلّ حججه وشعاراته وأصبح عاجزًا وفاقدًا المبادرة العسكرية. وبالتالي، مشكلتها هي مع “الحزب” لا مع إسرائيل، وعندما تبسط سيطرتها على أرضها تنتهي المشكلة مع إسرائيل.
لا تملك الدولة ترف الوقت والانتظار، وإذا كانت متردِّدة في ممارسة دورها العسكري لبسط سيطرتها على كامل التراب اللبناني، فإنها مدعوّة إلى ممارسة دورها السياسي بتحميل “الحزب” مسؤولية الدوران في حلقة مفرغة تُبقي لبنان محاصرًا ومعزولًا وساحة حروب وفوضى. وأسوأ ما في الأمر أنها تمنحه الأعذار ليُبقي على سلاحه، فيما وقوفها على الحياد يُفاقم ضغط بيئته ضده، ويسرِّع في إنهاء مشروعه المسلّح الذي يشكّل وحده الحاجز أمام قيام دولة فعلية وطبيعيّة.
إمّا نزع السلاح… وإمّا فك الارتباط .




