تعيش الدبلوماسية الفرنسية حالة من القلق المتزايد إزاء التطورات العسكرية الأخيرة في جنوب لبنان، بعد سلسلة من الهجمات الإسرائيلية بطائرات مسيّرة استهدفت مواقع قريبة من قوات الأمم المتحدة الموقتة (اليونيفيل). فرنسا، التي تُعتبر أحد أبرز المساهمين في هذه القوة الدولية، عبّرت عن استنكارها الشديد لهذه الاعتداءات المتكررة، واعتبرتها انتهاكًا صارخًا لقرار مجلس الأمن رقم 1701 ولوقف إطلاق النار الموقع في تشرين الثاني 2024. وفي بيان صادر يوم أمس الاثنين دانت الخارجية الفرنسية إطلاق النار الإسرائيلي الذي استهدف “اليونيفيل” في 26 من الشهر الحالي، وأكد البيان أن احترام وقف إطلاق النار المبرم في 26 تشرين الثاني 2024 واجب على جميع الأطراف من دون استثناء، ضمانًا لأمن المدنيين على جانبي الخط الأزرق، وتدعو إسرائيل إلى الانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية كافة .
تأثير فرنسي محدود
في بياناتها الأخيرة، أظهرت باريس لهجة حازمة تجاه إسرائيل، مطالبةً إياها بوقف الهجمات الجوية وسحب قواتها من كامل الأراضي اللبنانية، مؤكدة أن حماية قوات حفظ السلام هي “واجب قانوني وأخلاقي” على جميع الأطراف.
لكن خلف هذا الخطاب الصارم، يدرك صانعو القرار في باريس أن هامش المناورة الفرنسي محدود. ففرنسا لا تملك أدوات ضغط فعلية على تل أبيب، ولا على “حزب الله”. لذلك يصف دبلوماسي فرنسي رفيع الموقف الحالي بأنه “مزيج من الغضب والعجز”.
في الجوهر، تسعى فرنسا إلى تثبيت معادلة دقيقة: وقف الاعتداءات الإسرائيلية من جهة، وتعزيز سيادة الدولة اللبنانية من جهة أخرى. وهي ترى أن استمرار وجود سلاح “حزب الله” خارج سلطة الدولة يعرقل تطبيق القرار 1701 ويُضعف قدرة الجيش اللبناني على فرض سيطرته في الجنوب.
من هنا، تواصل باريس دعمها لمشاريع تعزيز الجيش اللبناني وتوسيع انتشاره بالتعاون مع “اليونيفيل”، معتبرةً أن نزع سلاح “الحزب” أو على الأقل تحجيم دوره العسكري، هو شرط أساسي لأي استقرار طويل الأمد، وهي تواصل مساعيها مع المملكة العربية السعودية لعقد مؤتمر لدعم الجيش اللبناني وتحث في الوقت نفسه السلطة اللبنانية على العمل يدًا واحدة لتنفيذ قرارات الحكومة بشأن حصر السلاح من دون تأخير لأن الوقت ليس لصالح لبنان.
تحركات دبلوماسية على محاور عدة
في الوقت نفسه، تواصل باريس العمل على التنسيق مع واشنطن والرياض والقاهرة، لمحاولة خلق توازن إقليمي يمنع انفجار الجبهة اللبنانية في سياق عدم السير بالتغييرات التي أفرزتها عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حروب على جبهات المنطقة بما فيها الصراع مع محور الممانعة، والقناعة التي تكونت إقليميًا ودوليًا بإزالة أي عامل يمكن أن يؤدي إلى زعزعة الاستقرار بما في ذلك الصراع الإسرائيلي – الإيراني الأوسع وكل ما يرتبط به من تنظيمات وأحزاب مسلحة .
مع ذلك، يقرّ مصدر دبلوماسي فرنسي بأن “الجمود هو العنوان الحالي”، وأن “أي تصعيد جديد قد يجرّ المنطقة إلى مواجهة لا يمكن السيطرة عليها”.
مخاطر أمنية
في تقاريرها الأخيرة إلى الأمم المتحدة، شددت فرنسا على أربعة مخاطر رئيسية:
انهيار وقف إطلاق النار بفعل تزايد الغارات الإسرائيلية أو ردود محتملة لـ “حزب الله”.
استهداف متكرر لقوات اليونيفيل، ما يهدد سلامة أكثر من عشرة آلاف جندي دولي، بينهم مئات الفرنسيين.
تفكك سلطة الدولة اللبنانية إذا استمرت المراوحة في البت بمصير السلاح غير الشرعي وإقرار الإصلاحات المطلوبة وانفجار أزمة معيشية في ظل الركود الاقتصادي.
انزلاق إقليمي واسع قد يشمل سوريا والعراق وإيران في حال تحوّل الجنوب اللبناني إلى ساحة مواجهة مفتوحة.
سيناريوات وتوقعات
وفقًا لمصادر مقربة من الخارجية الفرنسية، تتراوح السيناريوات المتوقعة بين :
السيناريو المتفائل، التزام الأطراف بالهدنة، وتعزيز دور الجيش اللبناني بدعم أوروبي وخليجي، ما يفتح الباب أمام مفاوضات طويلة الأمد حول تطبيق القرار 1701 بالكامل.
السيناريو الوسطي، استمرار الخروقات المتقطعة من دون انفجار شامل، مع استمرار الاستهداف الإسرائيلي عناصر “حزب الله” بالمسيرات وبالإغارة على مواقع محددة في الجنوب.
فرنسا بين الالتزام والمأزق
تبدو فرنسا اليوم في سباق بين رغبتها في حماية لبنان، حيث تتمتع بتاريخ نفوذ طويل، وبين قيود الواقع الجيوسياسي الذي يجعل قراراتها أقرب إلى بيانات نوايا، منها إلى أدوات ضغط فعلي.
فبينما تتصرف تل أبيب من دون رادع ويتمسك “حزب الله” بسلاحه بوجود سلطة لبنانية عاجزة، تجد باريس نفسها أمام تحدّ صعب: كيف تنجح في مساعيها لتجنيب المنطقة حربًا جديدة، فتحافظ بالتالي على موقع ريادي لها ولا تصطدم من جهة أخرى بسياسة بنيامين نتنياهو، فتوقف تدهور العلاقة بين باريس وتل أبيب، وتلجم في الوقت نفسه النفوذ الإيراني على بعض مكونات المنطقة وتضبط طموحاتها النووية؟
وفي انتظار واشنطن، تبقى الدبلوماسية الفرنسية حبيسة المعادلة اللبنانية: لا حرب شاملة ولا سلام مستقرًا في المرحلة الراهنة على الأقل.
باريس تُحذر من انهيار الهدنة في الجنوب .





