في لعبة الشطرنج المعقّدة في الشرق الأوسط، تسعى إسرائيل إلى إعادة رسم الخرائط الأمنية وفق مصالحها. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار تقاريرها الأخيرة، المتزايدة والممنهجة، حول «تهريب الأسلحة من سوريا وجنوبها إلى «حزب الله»، ليست مجرد استعراض استخباري، بل حجر زاوية في استراتيجية أعمق: تهيئة الأجواء لربط الجنوب اللبناني والجنوب السوري في سلة واحدة، سواء في التصعيد المقبل أو في التسوية التي يفترض أن ينتجها.
واضح أنّ إسرائيل تقوم حالياً بصنع الذريعة التي بها ستبرّر الخطط الجاهزة للتنفيذ. فهي ستجعل تهريب السلاح إلى لبنان عبر الحدود السورية أساساً لتبرير استراتيجي. وهذا ما يفسّر إصرارها على تضخيم عمليات تهريب الأسلحة من سوريا إلى مناطق نفوذ «حزب الله»، وتوثيق «خطورتها»، بما يخدم هدفين رئيسيين:
1- عندما تعلن إسرائيل تكراراً عن وجود شبكات إيرانية تعمل على خط إمداد بري إلى لبنان، عبر البقاع الشمالي أو جبل الشيخ، فإنّها تجهّز لنفسها الغطاء الشرعي الدولي الذي يتيح لها تنفيذ ضربات استباقية وعمليات عسكرية خارج نطاق جنوب الليطاني، وفي عمق الأراضي السورية واللبنانية من دون مساءلة من أحد. وهذا ما لوحظ تسارعه في الأيام الأخيرة.
2- تهدف هذه التقارير المتلاحقة إلى تسخيف أي مسعى لبناني، بما في ذلك خطة الجيش اللبناني لإخلاء جنوب الليطاني من سلاح «الحزب»، عبر الإيحاء بأنّ أي ترتيبات أمنية تخص لبنان وحده، من دون الجانب السوري، ستبقى من نوع «الترقيع» ولن تجدي، لأنّ الحدود السورية ستبقى مفتوحة وتشكّل شريان حياة لـ»حزب الله». وفي معنى آخر، هي تقول: «لا يمكن فصل الجبهتين، وأمننا لا يتحقق بترتيبات جزئية تقتصرعلى واحدة منهما دون أخرى».
وتأكيداً لهذا الاتجاه، أجرى الجيش الإسرائيلي مناوراته وتدريباته في الأيام الأخيرة على الحدود اللبنانية والسورية في آن معاً. وهو أساساً ينفّذ ترتيبات عملانية متشابهة على حدود لبنان وسوريا، إذ يتمدّد خارج النقاط التي يسيطرعليها لتنفيذ ضربات معينة ويمنع الإعمار وعودة الأهالي، وهذا التشابه ليس مجرد ممارسات تكتيكية، بل هو إعلان صريح عن وحدة الساحة العملياتية من وجهة نظر إسرائيلية.
وفي الترجمة العملية، إسرائيل تقوم بتمزيق فكرة «الخط الأزرق» مع لبنان. وهي إذ تهوّل بأنّ «حزب الله» يوشك أن يستعيد قدرته على التهديد بالصواريخ الجديدة والمسيّرات التي أودعها مخازنه في مناطق مختلفة، أو هو في صدد إنتاجها أو تطويرها في مصانع، في مناطق نفوذه الواقعة شمال الليطاني، أي في عمق البقاع اللبناني أو ربما في الضاحية الجنوبية (كما أعلن الإسرائيليون مراراً)، تجري تغذيتها بتهريب المعدات والأجزاء المُعدّة للتركيب، عبر الحدود مع سوريا.
في النتائج السياسية، ستقول إسرائيل إنّ أي منطقة أمنية يُراد منها ضمان حدودها الشمالية، أو أي ترتيبات ترسيم أو فصل، لا يمكن أن تقتصر على لبنان وحده، بل يجب ان تتناول الحدود اللبنانية-الإسرائيلية والحدود السورية-الإسرائيلية في حزمة واحدة، أي فرض «حزام أمني» مشترك، قوامه ترتيبات أمنية متشابهة ومتجانسة بل متكاملة، بحيث لا يتمّ مستقبلاً تنفيذ أي عملية من لبنان في شمال إسرائيل، بذريعة أنّ المنفّذين جاؤوا من سوريا، والعكس صحيح. والأرجح أنّ إسرائيل تعمل لإقامة نموذج مشابه لـ «الحزام الأمني» الذي لطالما حافظت عليه في جنوب لبنان، ولكن هذه المرّة بشراكة مع سوريا، وبصيغة جديدة تنسجم مع مقتضيات التسويات الموعودة مع البلدين. وسيكون هذا الحزام الأمني «الصلب»، أي الكيلومترات الأولى بعد الحدود، بمثابة منطقة عازلة، أو منزوعة السلاح ذات رقابة مشدّدة، دولية شكلاً وإسرائيلية فعلاً. وستسعى إسرائيل إلى قطع الطريق تماماً على «حزب الله»، بمنع وصول الإمدادات إليه عبر الجسر الاستراتيجي الوحيد الذي يمتد عبر سوريا، والذي يفترض أن يكون قد انقطع بعد سقوط نظام الأسد، إلّا أنّه مستمر على ما يبدو، ولو في شكل ضعيف وبكثير من الصعوبة.
وفي الواقع، تحاول حكومة أحمد الشرع أن تقطع دابر كل ما يملكه «الحزب» وإيران من شبكات ومخازن ومصانع في سوريا. وهي تعلن بين الحين والآخر عن مصادرة شحنات من الأسلحة متوجهة إلى لبنان. كما تعلن استنفارها لضبط كل أنواع التهريب إلى لبنان، بما في ذلك المخدرات التي غالباً ما يربطها المجتمع الدولي والعرب بشبكات أدارها النظام، ولطالما شكّلت أذية لدول أوروبية وعربية، ولا سيما منها الأردن والخليج العربي. وفي الواقع، تريد دمشق الجديدة توجيه رسائل إلى إسرائيل، تحمل مغازي مزدوجة: نحن وحدنا القادرين على قطع الإمدادات عن «حزب الله» وجعل سلاحه ينفد أو يصدأ في مخازنه!
في العمق، تقوم إسرائيل بتحضيرالأرضية للتفاوض المستقبلي حول ترتيبات الأمن. فإذا نجحت في ترسيخ مفهوم أنّ «الجنوبين» اللبناني والسوري هما جبهة واحدة، فإنّ ذلك سيمنحها هامشاً تفاوضياً واسعاً، إذ سيجعل التفاوض «إقليمياً» لا «ثنائياً». أي إنّ الاتهامات الإسرائيلية بتهريب السلاح عبر الحدود السورية إلى لبنان، وخصوصاً من جهة الجنوب وجبل الشيخ، يُراد منها التأسيس لترتيبات أمنية مستقبلية.
ويتبين أنّ خروج سوريا من محور إيران إلى محور آخر لم يُضعف رغبة إسرائيل في ربط الجبهتين اللبنانية والسورية في مصير واحد. وعلى العكس، تعتبر إسرائيل أنّها اليوم أمام فرصة ذهبية لتقديم نفسها كشريك أمني للنظام الجديد ضدّ «حزب الله» على الحدود السورية، ضماناً للمصلحة المشتركة. فهي تريد من حكومة دمشق أن تشاركها قطع الطريق نهائياً على أي حركة لـ «حزب الله» في الجنوب السوري، ما يؤدي إلى منع أي استهداف لقواتها في جنوب لبنان أو مناطقها الشمالية. وفي الوقت نفسه، هي توظف نفسها في مهمّة ضرب «الحزب» في لبنان وسوريا، وهو ما يؤدي إلى دعم الحكم السوري الحالي في سعيه إلى إضعاف «الحزب» ومنعه من التلاعب بالأمن الداخلي السوري. وتستغل إسرائيل مسألة التهريب ذريعةً لإقامة نظام أمني إقليمي يخدم مصالحها العليا، يتمثل في خلق «عمق دفاعي» لها، يمتد إلى داخل الأراضي السورية واللبنانية، ويهدف إلى تصفير تهديد «حزب الله» الصاروخي واللوجستي على كلا الجبهتين. ويتوقع أن تصرّ على تأمين هذا الشرط، في أي ترتيبات أمنية يتمّ التفاوض عليها في مرحلة لاحقة.
ماذا تُحضِّر إسرائيل بين لبنان وسوريا؟ .




