سيناريو مفصّل لمستقبل الودائع والدين العام

نشر مصرف “جي. بي. مورغان” (J.P. Morgan) مذكّرة تناول فيها أوضاع سندات اليوروبوند اللبنانيّة، أي ديون لبنان الخارجيّة، المقوّمة بالدولار الأميركي. الفكرة الأساسيّة التي تمحورت حولها المذكّرة، هي أنّ هذه السندات ستحمل فرصًا استثماريّة، وخصوصًا خلال الربع الأخير من العام الحالي. 

وبصورة أوضح، فإن ما تقوله المذكرة هو التالي: ما يمكن للمستثمرين -من حملة السندات- استرداده، حتّى بعد إعادة هيكلة هذه الديون واقتطاع نسبة من قيمتها، سيبقى أعلى من قيمتها السوقيّة الراهنة، أي كلفة شرائها الآن. وشراء سندات اليوروبوند اللبنانيّة، في الفترة المتبقية من السنة الحاليّة، يمكن أن يحقّق أرباحًا لحملة السندات. مع الإشارة إلى أنّ احتساب هذه الأرباح أخذ بعين الاعتبار “عامل الزمن”، أي كلفة توظيف الأموال لفترات زمنيّة معتبرة، وهي كلفة تأخذ بعين الاعتبار المخاطر والفوائد التي كان يمكن جنيها من استثمارات بديلة.

لماذا تهمّنا المذكرة؟

ليس هناك أي مُصادفة في توقيت المذكرة، ولا في مضمونها. فما يمكن استرداده، بالنسبة لسندات اليوروبوند، أي قيمة السندات بعد إعادة هيكلتها واقتطاع جزء من قيمتها، ستعتمد على حجم الديون الحكوميّة الإجماليّة التي يمكن الإبقاء عليها في المستقبل، بشكلٍ مستدام وقابل للسداد. وهذه القيمة محكومة طبعًا بالمعايير التي يفرضها صندوق النقد الدولي، والتي ستكون جزءًا من تفاهم لبنان مع الصندوق، الذي يمكن أن ينضج خلال الأشهر المقبلة. وهذا يفسّر طبعًا إشارة المُذكّرة إلى “الربع الأخير من السنة الحاليّة”، بوصفه الفترة الأكثر ملاءمة للاستثمار في سندات اليوروبوند.

وقيمة الديون الحكوميّة، التي يمكن الإبقاء عليها، ستعتمد أيضاً على قدر الخسائر المصرفيّة التي ستتحمّلها الحكومة اللبنانيّة، في  إطار عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفيّ. تشير المُذكرة بوضوح إلى إصرار صندوق النقد على تقليص حجم الخسائر التي سيتم تحميلها للحكومة. لكنّها تستند في الوقت نفسه إلى “ديناميكيّات المفاوضات الراهنة”، للافتراض بأنّ الحكومة ستتحمّل قدرًا من هذه الخسائر في النهاية. 

على هذا الأساس، وللوصول إلى الخلاصة النهائيّة، أي قيمة الاسترداد لسندات اليوروبوند، تحمل المُذكرة في طياتها سيناريوهين:

– أولاً، سيناريو لكيفيّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. ما يفرض البحث عن حجم الخسائر التي ستتحمّلها الحكومة، وقيمة الاقتطاع من أموال المصارف المودعة في مصرف لبنان، فضلًا عن تقديرات معيّنة لحجم الفجوة التي سيتم التعامل معها.

– ثانيًا، وبعد احتساب قيمة مساهمة الحكومة في معالجة الخسائر المصرفيّة، تضع المذكرة سيناريو لكيفيّة إعادة هيكلة سندات اليوروبوند، أي نسبة الاقتطاع من قيمة السندات، وما يمكن الإبقاء عليه من الدين العام.

وعليه، فإن ما تطرحه المذكّرة هو تمارين رياضيّة، لعمليّة إعادة هيكلة المصارف، التي ستحدّد مصير المصارف، ولإعادة هيكلة سندات اليوروبوند، التي ستحدّد مصير الدين العام وحجم التزامات الحكومة في المستقبل. وهذه التمارين ليست مجرّد أرقام عشوائيّة. فهي تستند إلى بعض الافتراضات التي يراها محللو جي. بي. مورغان منطقيّة، كما تستند كذلك إلى معلومات المحللين ومصادرهم، ما يفسّر إشارتهم إلى “ديناميكيّات المفاوضات” عند الحديث عن مساهمة الدولة في إطفاء خسائر المصارف.

مصير الودائع

ترى المذكّرة أن فجوة الخسائر، أي الفارق ما بين التزامات المصرف المركزي والموجودات السائلة أو القابلة للتسييل، تناقصت تدريجيًا خلال السنوات الماضية، في إشارة إلى الزيادات في قيمة احتياطات الذهب والعملات الأجنبيّة. وحجم الخسائر المصرفيّة الإجمالي، بات يتراوح بين 50 و55 مليار دولار أميركي، وهو ما يقل بأشواط عن الرقم المُتداول، الذي يقارب نحو 75 مليار دولار.

تفترض المذكرة، في سيناريو إعادة هيكلة المصارف، تقليص التزامات مصرف لبنان للمصارف، بالعملات الأجنبيّة، من 79 مليار دولار، إلى 47 مليار دولار، ما يعني أن المصرف المركزي سيتخلّص من قرابة 32 مليار دولار من هذه الالتزامات. وهذا ما سيتم من خلال بنود قانون الفجوة، الذي يُفترض أن تبدأ مناقشته في الحكومة خلال الأسابيع المقبلة. 

وخلال الأسابيع الماضية، تسرّبت إلى وسائل الإعلام بعض المقاربات التي يعمل عليها مصرف لبنان لتقليص هذه الالتزامات، ومنها إعادة النظر بجزء من الفوائد التي تم تسديدها على الودائع، أو وضع آليّات خاصّة للتعامل مع الودائع الناتجة عن تحويلات من الليرة إلى الدولار بعد الأزمة، أو تمييز الودائع “غير المشروعة”، وغيرها…

في مقابل تخفيض التزامات المصرف المركزي، تفترض المُذكرة أن جزءًا من الخسارة ستتحمّله الحكومة، وبقيمة تناهز 9.8 مليار دولار أميركي. وهذا المبلغ سينقسم إلى جزئين: ما سيبقى من محفظة سندات اليوروبوند التي يملكها مصرف لبنان، وهي بقيمة 1.8 مليار دولار أميركي. وما سيبقى من “ديون القطاع العام”، التي أضافها رياض سلامة في آخر أيامه إلى ميزانيّة مصرف لبنان، كالتزامات متوجبة على الدولة لمصلحة المصرف المركزي. حجم هذه الديون الإشكاليّة، التي تدور علامات استفهام كبيرة حول صحّتها، سيتم تخفيضه من نحو 16.5 مليار دولار، إلى قرابة 8 مليار دولار. 

لاحقًا، وبعد تخفيض حجم الودائع، ثم تحديد حجم مساهمة الدولة، يمكن المضي قدمًا بتقسيط جزء من الودائع المتبقية، بموجب سندات طويلة الأجل أو دفعات ممولة من الحكومة، ما يفرض مجددًا تخفيض حجم التزامات مصرف لبنان إلى المصارف إلى نحو 30 مليار دولار أميركي.

إعادة هيكلة الدين العام

بعد الأخذ بعين الاعتبار حجم التزامات الحكومة، التي ستنتج عن عمليّة إعادة هيكلة المصارف، وبعد النظر في حجم الديون التي يمكن أن تتحمّلها الحكومة في الخلاصة، ترى المذكرة أنّه يمكن المضي قدمًا بعمليّة إعادة هيكلة الدين العام باقتطاع 65 بالمئة من قيمة سندات اليوروبوند منذ السنة الأولى. وهذه الخلاصة مبنيّة على افتراض تمكّن لبنان من توقيع اتفاق مبدئي مع صندوق النقد خلال الربع الأوّل من العام 2026. وفي نتيجة هذه العمليّة، يمكن للبلاد أن تخفّض حجم الدين العام الإجمالي إلى قرابة 30 مليار دولار خلال عام 2026، قبل أن يسجّل المزيد من الانخفاضات إلى حدود 28.1 مليار دولار أميركي بحلول العام 2030.

في هذه السيناريوهات، تكون قيمة الاسترداد لسندات يوروبوند قد ناهزت 45 بالمئة من قيمتها الإسميّة. لكن المذكرة، كما أشرنا سابقاً، تأخذ بعين الاعتبار “عامل الزمن”، أي القيمة الراهنة للعائدات المستقبليّة، بعد احتساب مستوى المخاطر ونسبة الفوائد التي كان يمكن تحقيقها من استثمارات بديلة. وبعد احتساب هذه العوامل، تتراوح القيمة الراهنة للسندات (Net Present Value) ما بين 34.4 و26.6 بالمئة من القيمة الاسميّة لكل سند. ومن المعلوم أنّ القيمة الراهنة ستختلف بالنسبة لكل شريحة من شرائح السندات، بحسب تاريخ الاستحقاق المستقبلي.

بهذا الشكل، تطرح مذكرة جي. بي. مورغان سيناريوهين متكاملين لتحديد مستقبل الدين العام من جهة، والودائع وفجوة الخسائر في مصرف لبنان من جهة أخرى. أهميّة هذه المذكرة، تكمن في صدورها عن جهة فاعلة من السوق، ومتمكنة من ناحية القدرة على جمع المعلومات وتحليلها وصياغة الافتراضات الأكثر ترجيحًا. لكن من المهم التأكيد، في الوقت نفسه، أنّ جهة مثل جي. بي. مورغان قد تملك مصلحة في الدفع باتجاه تقليص حجم الاقتطاعات من سندات اليوروبوند، لكونها أبرز المكتتبين الحاليين في هذه السندات، تمامًا كحال لاعبين آخرين. وعليه، قد يكون من المفيد الأخذ بهذه السيناريوهات كأهداف تسعى بعض الجهات المؤثّرة للوصول إليها، بدل التسليم بها كحقيقة مطلقة.

Follow
Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...