ثمة احتمال مثير للقلق، وهو أن تكون إسرائيل في صدد التريث في القيام بأي خطوة نوعية جديدة في لبنان، في انتظار انتهاء المحادثات بين الشرع وترامب في واشنطن، وما ستخرج به من نتائج. وربما هنا يكمن السرّ في الكلام الأميركي المتكرر على منح لبنان مهلة تمتد حتى نهاية هذا الشهر أو الشهر المقبل، أي نهاية 2025، لكي يحسم خياراته في ما خصّ ملفي السلاح والمفاوضات. فهل ننام في لبنان على حرير المماطلة، فيما الآتي أعظم؟
لقاء الشرع ـ ترامب هو محطة مفصلية في إعادة رسم خرائط النفوذ في المشرق العربي. وربما يكون في الواقع جزءاً من «صفقة القرن» الإبراهيمية التي لا تشمل فلسطين وحدها، بل سوريا ولبنان أيضاً… ومعاً.
الشرع يعرف تماماً حدود اللعبة في سوريا، جنوباً مع إسرائيل وشمالاً مع تركيا وشرقاً مع الأميركيين. كما يعرف غرباً تحدّيات العلاقة مع لبنان. وهو يستثمر مواهبه البراغماتية للحصول على اعتراف دولي بشرعية حكمه، بدعم أميركي وتشجيع سعودي ـ تركي، وهو الآتي من خلفية صعبة.
وبالفعل، أزالت الولايات المتحدة اسمه من قوائم الإرهاب، وهي تراه اليوم حاجة لا غنى عنها لـ«استيعاب» سوريا في المنظومة الإقليمية الجديدة. وفي معنى آخر، يعرض عليه الأميركيون أن يكون «حارس بوابة» ضدّ نفوذ إيران وأجنحتها، وورقة تفاوض يمكن استخدامها لضبط أمن إسرائيل الإقليمي. والثمن الأولي الذي سيتقاضاه الشرع هو القبول الدولي به والانخراط في إعادة إعمار سوريا.
مع إسرائيل، جوهر الصفقة المقترحة هو الترتيبات الأمنية في جنوب سوريا، وهو ما تمهّد له إسرائيل بتوغل بري لن تتراجع عنه بسهولة، بل يرجح أن ينتهي بتقسيم وظيفي لسيادة الدولة السورية، إذ ينتزع منها صلاحيات أمنية وعسكرية في مناطق حيوية، وفي شكل متدرج.
فحوى الحديث في هذا المجال، هو أنّ إسرائيل تريد أولاً إقامة منطقة عازلة لصيقة بالحدود، خالية تماماً من الوجود السوري السيادي، وفيها يتمركز جيشها في نقاط استراتيجية مثل جبل الشيخ. وبعد ذلك، تنشأ منطقة أمنية ثانية بمواصفات أخرى. فتكون هذه المنطقة ذات سيادة مدنية مثلاً، أي فيها وجود حكومي مدني سوري، فيما الأمن العسكري يبقى خاضعاً لرقابة مشدّدة. وفي الترتيب الثالث، يتمّ إنشاء منطقة تمتد حتى دمشق يحظّر فيها استخدام الجيش السوري للسلاح الثقيل والطيران. ونتيجة لإقامة هذه المناطق الأمنية الثلاث، تكون إسرائيل قد ضبطت الأمن حتى دمشق.
وهذا النموذج من الترتيبات في الجنوب السوري هو نفسه تريده إسرائيل في جنوب لبنان. بل إنّها تريد ربط الجنوبين السوري واللبناني، واعتبارهما منطقة أمنية واحدة تمتد حتى نهر الأولي شمال صيدا من الجهة اللبنانية، أي إنّه يضمّ محافظتي الجنوب والنبطية بكاملهما.
وثمة اقتناع بأنّ إسرائيل تريد من هذا الربط تحقيق طموحات توسعية في المدى البعيد، ضمن مخطط «إسرائيل الكبرى». ولكن، في المدى القريب، الهدف الإسرائيلي هو قطع طريق سوريا إلى «حزب الله»، وإنهاء أي تهديد له على مدى الحدود الشمالية. وستكون مهمّة حكومة الشرع ضبط وصول السلاح والمال إلى «الحزب» في لبنان ضمن مساومة كبرى تدور في مثلث سوريا ـ إسرائيل ـ الولايات المتحدة، وفيها يتمّ إقناع الشرع بالاضطلاع بدور الوكيل الإقليمي لتحجيم النفوذ الإيراني في لبنان، أو «حارس البوابة».
وما يحدث في جنوب سوريا ستوازيه ترتيبات أمنية محتملة في شمالها ترعاها تركيا. وهذا لا يتمّ بعيداً من أعين تل أبيب، بل ضمن «تفاهم صامت» لتقاسم النفوذ. فتركيا تريد أن تحقق حلمها القديم في السيطرة على مناطق تحمي أمنها القومي وتمنحها عمقاً استراتيجياً على البحر المتوسط، تمتد من العراق إلى سوريا وربما لبنان. وأما إسرائيل فتوافق على النفوذ التركي «المضبوط» حجماً ونوعاً لتحصل على مكاسب مهمّة في سوريا، وطبعاً في غزة حيث الأتراك ينخرطون في التسوية هناك بكل ثقلهم. فأنقرة، العضو في الحلف الأطلسي الذي تقوده واشنطن، ملزمة في النهاية بمنع أي تهديد للأمن الإسرائيلي من جهة سوريا في الشمال. وهذا التوازن يعكس رغبة تركيا وإسرائيل في تقاسم النفوذ بدلاً من تفجير النزاعات.
وهنا يُطرح السؤال في لبنان: هل يتمّ إغراء نظام الشرع بالحصول على أوراق في لبنان، مقابل الأوراق التي انتُزعت منه في داخل الخريطة السورية؟
هذا هو جوهر «المقايضة الإقليمية الكبرى». ففي الواقع، سيخسر الشرع جزءاً من السيادة السورية، لكنه سيربح شرعية دولية كاملة ورفعاً للعقوبات وتمويلاً لإعادة الإعمار، وأوراق نفوذ في لبنان، ومن أخطرها مثلاً تحوّل «حزب الله» ورقة تفاوضية في يده.
في الواقع، لن يُنشئ الشرع دولة ديموقراطية تماماً كما يفترض أن تكون دولة لبنان، ولا دولة ديكتاتورية تماماً كما كانت سوريا الأسد. دولة الشرع ستكون دولة أمنية ـ براغماتية، وظيفتها ضمان استقرار الإقليم وتأمين الخطوط الاقتصادية والسياسية الاستراتيجية التي سيتمّ إمرارها حتى المتوسط وعبره إلى أوروبا والعالم. وفي أي حال، يبدو أنّ الشرق الأوسط كله يتّجه إلى هذا النموذج من الدول ـ الوظائف، حيث الولاءات ومفاهيم السيادة تتحدّد براغماتياً، وليس على الأسس القديمة «الجامدة». فهذا يناسب المخطط الإسرائيلي ـ الأميركي المسمّى «صفقة القرن». وللتذكير، جاريد كوشنير، صهر ترامب والأب الروحي لمشروع «صفقة القرن» وصل أيضاً إلى إسرائيل وهو يتألق وسط زحمة الموفدين الأميركيين، ربما ليضع النقاط الناقصة على بعض الحروف في مستقبل الشرق الأوسط.
الشرع «الأميركي»: أنت حارسُ البوابة! .





