صراع النفوذ: تحالفات جديدة تُعيد رسم الشرق الأوسط

أعلنت إسرائيل إغلاق حدودها مع مصر، صعّدت ضرباتها على جنوب لبنان، في حين تعتزم واشنطن إنشاء قاعدة جوية قرب دمشق بالتنسيق مع سوريا. ثلاث خطوات تبدو للوهلة الأولى منفصلة، لكنها تتقاطع ضمن خطة واحدة هدفها تأمين حدود إسرائيل والعمق الاستراتيجي المحيط بها قبل انطلاق مرحلة عسكرية جديدة تستهدف ما يُسمّى “الجماعات الإسلامية المتطرفة” في سوريا وأفريقيا، بالتوازي مع سعي تل أبيب لنزع سلاح “حماس”، وإعادة رسم خريطة النفوذ في البحر الأحمر والسودان.

البحر الأحمر: من خطوط الملاحة إلى خطوط النار
تحوّل البحر الأحمر إلى ساحة صراع كبرى بين تحالفين إقليميين متنافسين. من جهة، يقف التحالف الإسرائيلي الذي يدعم قوات “الدعم السريع” في السودان، مدفوعاً بمصالح اقتصادية وعسكرية تشمل الذهب والمعادن، لكن الأهمّ هو مواجهة نفوذ الجيش السوداني الذي تعتبره إسرائيل امتداداً لتيار إسلامي إخواني يهدد أمنها القومي. ومن الجهة المقابلة، يقف التحالف التركي المصري الإريتري الصومالي الذي يدعم الجيش السوداني في مواجهة قوات الدعم السريع، ويعتبرها حركة انفصالية تهدد وحدة السودان واستقرار القرن الأفريقي.
قبل أسبوع، تعرّضت مواقع تابعة لقوات الدعم السريع لغارات من طائرات مجهولة استهدفت شحنات عسكرية ضخمة، بالتزامن مع وصول وفود عسكرية إريترية إلى القاهرة لمناقشة التطورات على الحدود السودانية والإثيوبية. تزامن الحدثين يوحي بأن التحالف التركي المصري بدأ يتحرك ميدانياً لحماية نفوذه في البحر الأحمر.
في المقابل، تسعى إسرائيل إلى تثبيت وجودها عبر قواعد مراقبة ورادارات مرتبطة بالأقمار الصناعية في جنوب اليمن وأرض الصومال، وذلك لتأمين مضيق باب المندب الذي يشكل شريانها التجاري الجديد بعد اتفاق الممرّ الهندي الإسرائيلي.

تركيا في الصومال وإريتريا.. وإسرائيل في حالة تأهب
وأشار تقرير نشرته صحيفة “يسرائيل هيوم” إلى أن أنقرة تبني قواعد عسكرية في الصومال وإريتريا لتجارب إطلاق صواريخ باليستية قد يصل مداها إلى الأراضي الإسرائيلية. هذا التطور دفع تل أبيب إلى رفع مستوى الجاهزية في البحر الأحمر واعتبار التحركات التركية تهديداً مباشراً لأمنها. وفي السياق نفسه، كشف تقرير صادر عن Jerusalem Center for Security and Foreign Affairs في أيار/ مايو الماضي أن التحالف التركي مع الصومال والجيش السوداني يُنظر إليه في إسرائيل باعتباره محوراً إسلامياً جديداً يمتد من البحر الأحمر إلى القرن الأفريقي، ويشكل تحدياً وجودياً لمشروعها الأمني.
ولفت التقرير أيضاً إلى أن التحالف التركي المصري لا يقل خطراً بنظر تل أبيب، لأن القاهرة، بالرغم من شراكتها الرسمية مع إسرائيل، ما تزال تضم قاعدة شعبية واسعة متعاطفة مع التيارات الإسلامية، خصوصاً مع “حماس”. هذا الواقع جعل إسرائيل تتحسب لأي تغير ميداني أو سياسي على حدودها الجنوبية، وهو ما يفسر إعلان وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس الأخير عن تحويل المناطق الحدودية مع مصر إلى منطقة عسكرية مغلقة لمواجهة ما وصفه بـِ “تهديدات الطائرات المسيّرة وتهريب السلاح”. لكن في العمق، يبدو القرار مرتبطاً مباشرة بالتحركات التركية المصرية في البحر الأحمر، وبالتحالفات العسكرية الجديدة التي تتشكل حول السودان، وهذا ما يدفع إسرائيل إلى تعزيز حدودها الجنوبية قبل الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق غزة، الذي يتضمن نزع سلاح “حماس”، سواء عبر المفاوضات أو بالقوة.

 

سوريا: القاعدة الأميركية والقلق التركي
في سوريا، تتقاطع التحركات العسكرية في البحر الأحمر مع مشروع أميركي جديد يهدف إلى إنشاء قاعدة جوية قرب العاصمة دمشق، في إطار اتفاق يجري التمهيد له مع الرئيس السوري أحمد الشرع، للانضمام إلى التحالف الدولي ضد ما يُسمّى “الجماعات الإسلامية المتطرفة”. لكن التوقيت وتركيبة التحالف تشير إلى خطة أوسع لتقسيم النفوذ في سوريا بين إسرائيل وتركيا، بحيث تسيطر الأولى على الجنوب مقابل بقاء النفوذ التركي في الشمال. هذا الترتيب يجري بإشراف مباشر من واشنطن، التي تحرص على ألا تخسر تركيا كعضو محوري في حلف الناتو، وتسعى في الوقت نفسه لمنع أيّة مواجهة مباشرة بين أنقرة وتل أبيب، عبر توزيع مدروس لمناطق النفوذ تحت عنوان “محاربة الإرهاب”.
ومع أن هذا الترتيب يهدف إلى تحقيق توازن دقيق بين القوى الإقليمية، إلا أنه يثير مخاوف أنقرة من أن يتحول التحالف الدولي، الذي يضم القوات الكردية في الشمال السوري، إلى أداة لتقييد نفوذها أو محاصرته تدريجياً في إدلب وشمال سوريا، وهذا ما يجعل الملف السوري جزءًا لا يتجزأ من صراع النفوذ الممتد من البحر الأحمر حتى شرق المتوسط.

 

لبنان في مرمى الخطة
في موازاة ذلك، تُكثّف إسرائيل عملياتها في جنوب لبنان بذريعة الردّ على تهديدات حزب الله، لكن المراقبين يرون في هذا التصعيد جزءاً من الخطة نفسها لتأمين الجبهة الشمالية تحسّباً لأي تصعيد متزامن مع العملية في غزة أو سوريا.
فإسرائيل، وهي تتحضر لضربات أوسع في القطاع، تدرك أن أيّة مواجهة في سوريا أو السودان قد تفتح الباب أمام ردود فعل من حلفاء إيران في لبنان؛ إذ تتزامن الغارات في الجنوب مع تحضيرات عسكرية متسارعة في اليمن، حيث زار وزير الدفاع في الحكومة اليمنية اللواء محسن الداعري، جبهات القتال في محافظة الضالع استعداداً لمواجهة محتملة مع الحوثيين. وقد أعلن زعيم الحوثيين أخيراً أن “الحرب المقبلة ستكون شاملة في المنطقة مع إسرائيل”، في وقت تشير مصادر إيرانية إلى أن “التحريض الأميركي والإسرائيلي ضد العراق هو تمهيد لتوسيع المواجهة نحو جبهة شرقية”.
هذا الترابط بين التصعيد الإسرائيلي في لبنان والتحشيد العسكري في اليمن يعزز فرضية أن إسرائيل تستعد لمواجهة شاملة على عدة جبهات مترابطة، خشية أن تتحرك قوات مدعومة إيرانياً من اليمن أو لبنان في وقت واحد، في حال اندلاع حرب ضد “حماس” أو توسع العمليات في سوريا.

نحو خريطة نفوذ جديدة
ما يجري في البحر الأحمر وسوريا ولبنان لا يمكن فصله عن بعضه. إنها مرحلة إعادة رسم لخريطة النفوذ في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي، حيث تتقاطع مشاريع متعددة:
– المشروع الإسرائيلي الساعي للسيطرة على الممرات البحرية وتأمين خطوط التجارة من الهند إلى المتوسط.
– المشروع التركي المصري الذي يحاول تثبيت نفوذه في السودان والبحر الأحمر.
– المشروع الأميركي الذي يعيد توزيع الأدوار لضمان التوازن بين إسرائيل وتركيا، تحت شعار “الحرب على الإرهاب”.
في هذا السياق، يظهر إغلاق الحدود مع مصر، تصعيد الضربات على جنوب لبنان، وبناء القاعدة الجوية قرب دمشق كأضلاع مثلث استراتيجي واحد، هدفه حماية إسرائيل قبل الدخول في مرحلة مواجهة أوسع ضد القوى الإسلامية في المنطقة، من “حماس” في غزة، إلى الفصائل في إدلب، وصولاً إلى الجيش السوداني المدعوم تركياً ومصرياً.
قد تختلف التفاصيل الميدانية، لكن المؤكد أن المنطقة تتجه نحو اشتباك طويل الأمد على النفوذ والممرات والشرعية، في حين تبقى الحرب على “الإرهاب” الغطاء السياسي الأوسع لإعادة ترتيب المشهد بما يخدم مشروع الشرق الأوسط الجديد.

  • الأكثر قراءة

واشنطن تطرح رسمياً مشروع قرارها بشأن غزة.. ما تفاصيله؟

مقترح أميركي لحل ملف مقاتلي “حماس” المحاصرين في رفح

ترامب يتودّد لممداني: ربما نساعده قليلاً

خيارات أميركية واسعة لإطاحة مادورو عسكرياً.. ما هي؟

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث

صراع النفوذ: تحالفات جديدة تُعيد رسم الشرق الأوسط .

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...