بري وحسم الـ”لا حرب”.. خلفيات الموقف ومعطياته

لا يختلف اثنان في لبنان على أن التوتر لم ينقطع ولو لحظة واحدة؛ بل إنه يلازم يوميات هذا البلد منذ السابع من أكتوبر في العام 2023. أكثر من عامين مرّا على حرب الإسناد، وعام على معركة “أولي البأس” واتفاق وقف إطلاق النار، من دون أن تتوقف خروقات العدو الإسرائيلي واعتداءاته اليومية واغتيالاته في الجنوب والبقاع، حتى بلغ عدد الشهداء بعد الاتفاق ثلاثمئة وسبعةً وعشرين شهيدًا. وفي ظل المفاوضات المستمرة، وعملية حصر السلاح المتواصلة، يتصاعد التهديد والوعيد الإسرائيلي بعودة شبح الحرب من جديد، وهو ما أقلق الشعب اللبناني الذي لا يريد العودة إلى أيام العدوان، خصوصًا بعد الإنذارات الأخيرة لقرى الجنوب. هذا ما دفع بعض السكان إلى البحث عن أماكن أكثر أمنًا تحسّبًا لأي تصعيد محتمل، في حين ترفض الغالبية مغادرة أراضيها تحت وطأة التهديد، متمسكةً بجذورها ومتطلعةً إلى بصيص أمل.

وفي خضمّ هذا المشهد القاتم، تبعث تصريحات رئيس مجلس النواب اللبناني ورئيس حركة أمل نبيه بري شيئًا من التفاؤل، بتكراره العبارة الحاسمة: “لا حرب”. فهو صاحب كلمة السر في وقف العدوان، وصاحب دور أساسي في العملية التفاوضية، وحليف حزب الله الأول، وركن أساس في الطائفة الشيعية، ولا سيّما في الجنوب الذي يسعى بري إلى إعادة إعمارِه من جديد. فإلى ماذا يستند رئيس المجلس في تصريحاته؟ أهو من باب الطمأنينة فقط، أم أن ما يملكه من معطيات لا يملكه سواه؟

خلفيات الموقف: ما وراء تصريحات الرئيس بري

تسأل “المدن” مصادر مقرّبة من بري عن حقيقة هذه التصريحات، وما هو سندها الفعلي في ظل الأجواء المشحونة التي تكاد تجزم بعودة العدوان من جديد. وتشير المصادر إلى عدة أسباب دفعته لإطلاق هذا التصريح، وأبرزها:

أولاً: الاتفاق الذي ترعاه رعاية مباشرة الولايات المتحدة الأميركية من جهة، وفرنسا من جهة أخرى. فهل ترغب واشنطن بعودة التصعيد إلى المنطقة بعد الاتفاق الذي تم التوصل إليه في شرم الشيخ مؤخرًا؟ مصادر عين التينة تستبعد ذلك.

ثانيًا: التزام لبنان الكامل، وعلى مختلف مستوياته الرسمية، بمضمون الاتفاق الذي وُقّع في نهاية تشرين الثاني الماضي، والمرجعية فيه القرار الأممي 1701. وهذا ما يعني أن هذا الالتزام لا يمكن أن يُقابل بتوسيع العدوان، بالرغم من ضرورة الحذر مما تُبيّته إسرائيل للبنان. وفي هذا الإطار، تؤكد المصادر أن على المجتمع الدولي أن يتحمّل مسؤولياته.

ثالثًا: انتشار الجيش اللبناني في جميع القرى الحدودية في منطقة جنوب الليطاني، حيث بلغت نقاطه هناك أكثر من مئة نقطة، مع التزامه الكامل بعملية حصر السلاح في تلك المنطقة وتعاونه الوثيق مع قوات الطوارئ الدولية التي تشهد على جهوده. وتضمّ هذه القوات أكثر من خمسٍ وأربعين دولة، إضافةً إلى اللجنة الخماسية التي حيّت الجيش اللبناني على دوره الكبير والتزامه بمضمون الاتفاق والخطة المقدَّمة للحكومة.

رابعًا: تمسك لبنان بخيار التفاوض “غير المباشر”، كما نصّ الاتفاق الموقّع برعاية دولية. وقد خطا لبنان خطوة إضافية عبر الاستعانة بمدنيين في التفاوض، كما حدث في تجارب سابقة، وهو ما يعني أنه يسحب من الاحتلال كل ذرائع الحرب، وإن كانت إسرائيل لا تحتاج إلى ذريعة أصلًا.

وتؤكد مصادر عين التينة لـِ “المدن” أن بري يسمع من رئيس “الميكانيزم” مديحًا للجيش اللبناني على دوره في الجنوب وتنفيذه الكامل لبنود الاتفاق، فضلًا عن بيانات “اليونيفيل” التي تدين الاعتداءات الإسرائيلية وتؤكد التزام لبنان بالاتفاق. وهنا تسأل المصادر: كيف لإسرائيل أن تتجاوز كل هذه المعطيات وتعود إلى شنّ العدوان من جديد؟

وبالرغم من التحذير من أن لا شيء مضمون مع الاحتلال، إلا أن تطمينات الرئيس بري لا تنطلق من مجرّد التوقعات؛ بل من معطيات واقعية ملموسة، وإن لم يكن الحسم نهائيًا، لأن إجرام العدو لا حدود له، وعلى المجتمع الدولي أن يتحمّل مسؤولياته كاملة.

جهوزية حركة أمل: بين الواقعية والاحتراز

في هذا السياق، علمت “المدن” أن حركة أمل أعدت كوادرها تحسّبًا لأي تصعيد محتمل، لاستيعاب المواطنين الذين قد ينزحون من منازلهم. وهذا الإجراء لا يتناقض مع شعار “لا حرب”؛ بل يأتي بوصفه خطوة احترازية. فالحركة، وحدها خلال الحرب الماضية، تمكّنت من استيعاب الأعداد الكبيرة جدًا من المهجّرين خلال الساعات الأولى، ففتحت المدارس الرسمية والخاصة والمعاهد والجامعات، وأمّنت اللوجستيات، وشكّلت فرق متابعة ميدانية، وكل ذلك بتوجيه مباشر من الرئيس نبيه بري.

واليوم، تعيد الحركة تأكيد جهوزيتها لأي طارئ، وإن كان مستبعدًا، انطلاقًا من القاعدة الشعبية القائلة: “من لا يحسب لا يسلم”. ومع ذلك، تبقى احتمالية “الحرب الشاملة” خارج دائرة التوقّع، بالرغم من بعض المؤشرات التي ظهرت مؤخرًا في الجنوب. ولهذا، يفضّل بعض المواطنين وإن قلّ عددهم مغادرة قراهم لأيام حتى تهدأ الأمور، في حين تعتبر الحركة نفسها المسؤولة الأولى عن أبناء الجنوب وتأمينهم قدر المستطاع.

ويؤكد المقربون من عين التينة أن ما يجري في الجنوب هو عدوان واحتلال إسرائيلي مستمر، أما عبارة “لا حرب”، فتعني تحديدًا “لا حرب شاملة“.

التهويل الإسرائيلي ومهلة العام

وفي سياق التهويل القائم، علمت “المدن” أن المهلة التي يتحدث عنها الجانب الإسرائيلي هي مرور عامٍ كامل على وقف الحرب؛ أي في 27 تشرين الثاني 2025، وهي مهلة تتوقع إسرائيل أن يشهد خلالها ملف سلاح حزب الله نهاية كاملة، بالرغم من علمها باستحالة ذلك. وتتزامن هذه المهلة مع زيارة البابا لاون الرابع عشر إلى بيروت، وهذا ما يعني انخفاض احتمالية التصعيد خلال هذه الفترة.

ومع ذلك، تبقى كل التحليلات في إطار التكهنات؛ إذ لا أحد يعلم شكل أي تصعيد محتمل ولا مداه ولا توقيته.

بين الخروقات والتسويات: سيناريوهات مفتوحة

بين استمرار الخروقات الإسرائيلية، وتوسع العدوان المحتمل، أو السعي نحو تسوية عبر مفاوضات، تبدو الأمور معقدةً للغاية، وقد تباينت وجهات النظر، في حين يظل التوتر سيد الموقف. وفي ظل سرية العمل الميداني الملحوظة لدى حزب الله، وإمكانية تحضيره لصد أي عدوان محتمل، يلتفّ اللبنانيون عموماً والجنوبيون خصوصًا حول شعار “لا حرب أولاً”، والثقة بالجيش اللبناني والدولة.

بري وحسم الـ”لا حرب”.. خلفيات الموقف ومعطياته .

Search
Latest News
Loading

Signing-in 3 seconds...

Signing-up 3 seconds...