بدل أن يصدر رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون مع الحكومة ورئيسها نواف سلام “البلاغ رقم واحد” أصدره “حزب الله”. هي مسألة سلطة وقرار لا تحتمل الانتظار. في هذه الدولة الأمر لمن؟ لـ “الحزب”؟ أم للسلطة السياسية والحكم؟ في ظل هذه المخاطر التي يواجهها لبنان واللبنانيون هل يعقل أن تبقى السلطة غائبة أو مترددة في مسألة احتكار القرار؟ وهل يعقل أن تظلّ تقف على خاطر “الحزب” وتنتظر ما يوافق عليه وما لا يوافق؟
البلاغ الذي أصدره “حزب الله” في كتابه المفتوح يوم الخميس 6 تشرين الثاني الحالي، ووجّهه إلى رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب واللبنانيين، يمكن وصفه بأنه كتاب أسود أو بيان انقلابي لم يكن ينقصه إلا احتلال الإذاعة والتلفزيون ووكالات الأنباء ليصير شكلًا ومضمونًا مشابهًا للانقلابات العسكرية التي كانت تحصل في العالم العربي وفي بعض دول أفريقيا. المشهد واضح: عندما تتردّد السلطة يتقدّم “الحزب” ويبدأ احتلال المواقع واحدًا بعد آخر.
لا تتعلق المسألة بحصول “الحزب” على الثلث المعطل داخل الحكومة، أو على الأكثرية النيابية في مجلس النواب حتى يتمكن من فرض رؤيته لما يجب أن تفعله الدولة، أو لما لا يجب ألّا تفعله، وللقرارات التي عليه أن يعطّلها ويحول دونها. فـ “الحزب” قبل العام 2005 لم يكن مشاركًا في الحكومات بوزراء حزبيين. كان يكتفي بالسيطرة السياسية مع النظام السوري على كل مكوّنات السلطة السياسية والإدارية والأمنية. وهو لم يكن في البداية راغبًا في هذه المشاركة طالما أنه كان يعتبر نفسه على خصام معها ولأنه في أهدافه يعمل على إقامة السلطة البديلة لها التي تنضوي تحت راية ولاية الفقيه. وهو كان معارضًا في الأساس للدخول في المجلس النيابي واحتاج إلى فتوى دينية من إيران حتى ينخرط في العمل النيابي ويرشح حزبيين منه إلى عدد من المقاعد النيابية. كان يتقاسم هذه المقاعد مع حركة “أمل” ومرشحين محسوبين على النظام السوري، وبعد خروج جيش هذا النظام من لبنان بات يتقاسم هذه المقاعد مع حركة “أمل”، 27 على 27، ويستخدم كل الوسائل حتى لا يحصل أي خرق. وهذا ما يفعله اليوم مع “أمل” في مواجهة استحقاق انتخابات أيار 2026.
بلاغ “الحزب” والأهالي الهاربون
حتى في الحكومات بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، كان يكتفي مثلًا بوزير واحد قبل أن يحتكر مع حلفاء له، بعد غزوة 7 أيار 2008 الثلث المعطل في مجلس الوزراء، والثلث المعطل في مجلس النواب لفرض الفراغ في رئاسة الجمهورية والإتيان بالرئيس الذي يريده.
بعد اغتيال أمينه العام السيد حسن نصرالله والكثير من قياداته، وبعد خسائره الضخمة في الحرب منذ عملية طوفان الأقصى، وموافقته على اتفاق وقف النار في 27 تشرين الثاني 2024، وسقوط نظام الأسد في سوريا، صحيح أن “الحزب” نزل تحت سقف شروطه السابقة ولم يستطع منع انتخاب الرئيس جوزاف عون ولا تسمية الرئيس نواف سلام، ولا الاعتراض على تشكيل الحكومة، ولكنه حاول منذ البداية التصدّي للأكثريتين الحكومية والنيابية وإسقاطهما بالتعاون مع رئيس مجلس النواب نبيه بري من خلال احتكار التمثيل الشيعي الحكومي والنيابي. صحيح أنه كان على تواصل دائم مع رئيس الجمهورية ولكنه لم يكن يأمن لما يمكن أن يفعله الرئيس، أو أن تُقْدِم عليه الحكومة، ولذلك أصدر هذا البلاغ الانقلابي.
ولكن في الواقع المعاكس لنفَس “الحزب” كان مشهد الأهالي الهاربين على الطرقات، بعد بدء التهديدات الإسرائيلية لعدد من المواقع التي سيتم استهدافها في عدد من القرى الجنوبية، يتناقض مع بلاغ “الحزب” وتحذيره للسلطة. عملية النزوح التي حصلت والتوهان في الطرقات ووصولها إلى الضاحية الجنوبية، أعطت انطباعًا بأن “الشعب” في دولة “حزب الله” لم يعد يؤمن باستراتيجية هذا “الحزب” وبقدرته على الردع وعلى مواجهة إسرائيل، وبأنه يصدّق أكثر تهديدات الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي.
ممنوع الغلط؟
ثمة نقاط في الشكل والمضمون يجب التوقف عندها في بلاغ “الحزب”:
• البلاغ أتى كرد أولي عنيف وتحذيري بعد إشارة افتتاحية نشرة أخبار قناة المنار السلبية تجاه قول رئيس الجمهورية إنه لا بدّ من التفاوض مع إسرائيل على ضوء التطورات الحاصلة في المنطقة بعد اتفاق غزة وعدم قدرة لبنان على البقاء خارج هذا الجوّ الدولي.
• إن صدور موقف “الحزب” عبر بيان من هذا النوع يهدف إلى فرض الجدية في التعاطي معه على أساس أن هذا الموقف واضح ومكتوب وعباراته مختارة ويجب قراءتها بتمعّن وممنوع الغلط مع “الحزب”.
• أتى هذا البلاغ بينما كان رئيس الجمهورية حريصًا على التواصل الدائم وعدم القطيعة مع “الحزب”، حتى بعد صدور قرارات مجلس الوزراء حول حصرية السلاح في جلستي 5 و7 آب، وبعد التمهّل في وضع خطة عملية لتنفيذها وعدم ربطها بجدول زمني. وكان يمكن لـ “الحزب” أن يتواصل مع الرئيس عبر هذه الآلية بزيارة لرئيس كتلته النيابية محمد رعد. ولكن التوجه إلى الرئيس بهذه الطريقة يعني التعاطي معه من الندّ إلى الندّ واعتبار أن مجرد زيارة رعد إلى قصر بعبدا تنازل لم يعد مقبولًا.
لماذا ليس الشيخ نعيم؟
• كان بإمكان الشيخ نعيم قاسم، أمين عام “الحزب”، أن يقول مثل هذا الكلام في أي مناسبة يمكن اختيار عنوان لها، وهي مسألة لا صعوبة فيها ويعتمدها “الحزب” دائمًا. ولكن صدور البلاغ بهذه الطريقة يتجاوز أيضًا هذا المسار الحزبي وموقع الأمين العام وكأن هناك عملية إيحاء بأن هذا الموقف ليس مَحلِّيا فقط مع أن مواقف “الحزب” كلّها ليست محلّية وتتعلّق بما يريده المرشد في طهران.
• إن التوجّه بالبلاغ إلى رئيس مجلس النواب أيضًا يكشف عن عدم ثقة بما يقوم به الرئيس نبيه بري الذي يحاول أن يزايد على “الحزب” في موضوع رفض تعديل قانون الانتخابات، ولا يجاريه في موضوع التفاوض مع إسرائيل، حتى لو كان سقفه البقاء تحت سقف اجتماعات لجنة “الميكانيزم” التي تراقب تنفيذ مندرجات اتفاق وقف النار. وإذا كان الشيخ نعيم قاسم أعلن قبل اتفاق وقف النار أن “الحزب” فوّض “الأخ الأكبر” نبيه برّي بالتفاوض، فإنه قد سحب منه هذا التفويض. لم يكن الحزب مرتاحًا إلى موقف بري ووزيريه في جلستي 5 و7 آب ويقال إنه وجّه إليه تحذيرًا بعدم تكرار الموقف الرمادي في جلسة 5 أيلول المتعلّقة بتنفيذ قرارات 5 و7 آب وأن برّي تنازل أمام هذا التحذير.
أمر عمليات
• بدا البلاغ وكأنه أمر عمليات يصدره “الحزب” وعلى من وجّهه إليهم أن يقرأوه ويطبّقوه وينفذوه، بحيث يظهر من خلاله أنه هو من يقرّر في هذه الدولة وعلى السلطة أن تطيعه. وهو استخدم الكلام المباشر والحازم الذي لا يحتمل التأويل والتفسير: “قطعًا للطريق أمام محاولات جرّ الدولة اللبنانية إلى جولات تفاوضية جديدة لمآرب تخدم فقط أهداف ومصالح العدو الصهيوني وقوى التسلّط المعادية للحق والعدل، فإننا نعرب لكم أيها السادة الرؤساء ونطرح عبركم إلى كل شعبنا العزيز في لبنان، رؤيتنا… حرصًا من حزب الله على التفاهم الوطني وحماية السيادة وحفظ الأمن والاستقرار في لبنان”. وهو يكرّر في مسألة التفاوض هذه ما كان أعلنه قاسم عن معركة كربلائية ونزع رقاب من يريد أن ينزع سلاح “الحزب”.
• يكرر “الحزب” تفسيره لمندرجات اتفاق وقف النار بما يتناقض مع تفسير الحكومة وبيانها الوزاري، ومع خطاب قسم رئيس الجمهورية، وكأنه يريد أن يقول إن هذا البلاغ هو بمثابة البيان الوزاري الجديد وخطاب القسم الذي يجب أن يقرأه الرئيس بدلًا من ذاك الذي قرأه بعد انتخابه. وهو أكّد مرة جديدة في هذا البلاغ على الخطيئة التي ارتكبتها الحكومة في مسألة نزع سلاحه من كل لبنان.
• حذر “الحزب” من “التورط والانزلاق إلى أفخاخ تفاوضية مطروحة، ففي ذلك المزيد من المكتسبات لمصلحة العدو الإسرائيلي الذي يأخذ دائمًا ولا يلتزم بما عليه، بل لا يعطي شيئًا. ومع هذا العدو المتوحّش والمدعوم من الطاغوت الأميركي لا تستقيم معه مناورة أو تشاطر”. في مقابل هذا التحذير أعطى لنفسه حق الاحتفاظ بسلاحه والمقاومة.
نصيحة كيسينجر
قبل دخول جيش النظام السوري إلى لبنان عام 1976 عكس هنري كيسينجر المعادلة أمام حافظ الأسد. كان الأخير متوجّسًا من أن إرسال جيشه إلى لبنان سيؤدي إلى دخول الجيش الإسرائيلي والتصادم معه. قال له كيسنجر “إن العكس هو الصحيح. إذا لم يدخل جيشك سيدخل الجيش الإسرائيلي”. هكذا دخل جيش النظام السوري بموافقة واشنطن ومعارضة الاتحاد السوفياتي وكان توجّهه التصادم مع منظمة التحرير الفلسطينية وياسر عرفات. ومن هناك ولدت نظرية الخطوط الحمر التي نصّت على عدم تجاوز الجيش السوري خط صيدا جزين، وعلى عدم تحليق طيرانه الحربي في سماء لبنان. سقطت هذه الخطوط في 13 تشرين 1990 لإنهاء وضعية العماد عون في قصر بعبدا.
اليوم ربما يكون مطروحًا أن العهد ينتهي إذا حصل الصدام مع “حزب الله”. قد يكون العكس هو الصحيح. يبدأ العهد فعلًا عندما يبدأ الصدام مع “حزب الله”. والصدام لا يعني أبدًا أن يكون عسكريًا. الخياران فيهما مخاطرة يجب تحمّلها ساعة اتخاذ القرار طالما هناك انتظار للقرار الإسرائيلي باستئناف الحرب ضد “الحزب” في تكرار لمندرجات الحرب السابقة ولنتائجها. وقد ظهرت معالمها في مشاهد الهروب على الطرقات.
العهد و”الحزب” والبلاغ رقم واحد: صِدَام لا بدَّ منه؟…من القمصان السود إلى الكتاب الأسود .






