بعد عامين من الحرب الطاحنة في غزة، التي وُصفت بأنها الأكثر دموية وتعقيدًا في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي منذ عقود، جاء اتفاق إنهاء الحرب ليعيد خلط الأوراق في المنطقة وخصوصاً في لبنان بعدما أعلن «حزب الله» فتح «حرب الإسناد» في 8 تشرين الأول/أكتوبر وأشعل الجبهة الجنوبية مع إسرائيل لتشكيل عنصر ضغط على تل أبيب، لكنه عرّض لبنان وجنوبه وبقاعه وضاحيته الجنوبية لمواجهة كبرى ولدمار غير مسبوق ولاغتيالات طالت أمينين عامين للحزب وكبار قادته العسكريين.
هذا الارتباط الميداني بين جبهتي غزة ولبنان جعل مصير إحداها متأثرًا مباشرة بمسار الأخرى. ولذلك، فإن اتفاق إنهاء الحرب في غزة، الذي نصّ على وقف شامل لإطلاق النار وتسليم سلاح حركة «حماس» وترتيبات أمنية وضمانات إقليمية، يضع «حزب الله» أمام مرحلة جديدة: هل سيقدم على تسليم سلاحه طوعاً للدولة اللبنانية ويعيد تموضعه سياسياً وعسكريًا، أم سيبقي على رفض تسليم هذا السلاح والاستمرار بخوض معارك مع الداخل اللبناني؟ علماً أن «الحزب» وافق في 27 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2024 على اتفاق وقف الأعمال العدائية خلال مفاوضات قادها رئيس مجلس النواب نبيه بري ووافقت عليها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، ليعود «حزب الله» ويتراجع عن موافقته على تسليم السلاح للجيش اللبناني.
وهكذا، فإن أولى نتائج الاتفاق في غزة تترك انعكاساتها على لبنان، حيث من المتوقع أن الدول الراعية للتسوية في غزة، ستضع تطبيق القرار 1701 على رأس أولوياتها وستمارس ضغوطاً إضافية على الدولة اللبنانية لتفعيل دور الجيش وتسريع تطبيق خطة حصرية السلاح ليس فقط جنوب نهر الليطاني بل في شماله أيضاً وعلى كامل الأراضي اللبنانية بما فيها سلاح «حماس» داخل المخيمات الفلسطينية التي شهدت تسليماً للسلاح من قبل فصائل منظمة التحرير. وستجد السلطة اللبنانية نفسها في موقع حرج بين مطالب المجتمع الدولي والعربي بحسم أمرها وبسط سيادتها على أراضيها كافة وبين الواقع الداخلي للبيئة الشيعية الحاضنة التي ترفض المس بالسلاح وتربط المسألة بإقرار استراتيجة الأمن الوطني، أي بتنظيم العلاقة بين الدولة وسلاح «حزب الله»، حيث يشدد «الحزب» على ضرورة الاستفادة من نقاط القوة بمعنى احتفاظه بسلاحه أو تشكيل لواء خاص ضمن هيكلية الجيش يضم عناصر «الحزب»، فيما القوى السيادية تعتبر أن سلاح «حزب الله» بات غير ذي جدوى، وترى أن انتهاء الحرب في غزة يسحب منه المبرر الأساسي لاحتفاظه بالسلاح خارج إطار الدولة، خصوصاً أن الحدود الجنوبية ستكون خاضعة لترتيبات أمنية دولية أكثر تشدداً مع انتشار الجيش اللبناني.
وفي انتظار الوقوف بوضوح على موقف «حزب الله» من تسوية غزة، فقد فَقَدَ «الحزب» ورقة أساسية هي ورقة إسناد الفلسطينيين بعدما خسر ورقة الدفاع عن الجنوب ولبنان ومعادلة الردع الاستراتيجي في وجه إسرائيل وبعدما فقد حليفاً رئيسياً هو نظام بشار الأسد في سوريا. لكن من غير المستبعد أن يخرج أمينه العام الشيخ نعيم قاسم ليعتبر أن الخطر الإسرائيلي لم ينتهِ، وأن التسوية في غزة لا تعني تغيّر طبيعة التهديدات التي تواجه لبنان، وأن تصدّي «حزب الله» للجيش الإسرائيلي في الخيام والحافة الأمامية هو الذي دفع تل أبيب إلى الموافقة على وقف إطلاق النار.
وهذا الخطاب المرتقب من الشيخ نعيم، سيفتح الجدل مجدداً في ظل رفض خصوم «الحزب» أن يبقى السلاح عقبة أمام قيام الدولة وورقة تفاوض بيد إيران على حساب لبنان وسيادته وإعادة تموضع محور الممانعة في ضوء المتغيرات الجديدة بعد عامين من المواجهة المفتوحة التي أعادت ترتيب التوازنات الإقليمية وأضعفت النفوذ الإيراني في بعض العواصم العربية.
ويعتبر خصوم «الحزب» أن من يعتقد أن بإمكانه إبقاء لبنان ساحة للصراعات واهم ويخطئ الظن، فما جرى في غزة على صعيد الخطة الأمريكية هو الرسالة الأكثر دلالة على مسار الأمور، وأي سردية أخرى تُستخدَم للتمسك بالسلاح في وجه المخاطر الإسرائيلية باتت غير قابلة للصرف.
هل يسير «الحزب» على خطى «حماس»؟ .







