لدى سؤال مصدر دبلوماسيّ غربيّ عمّا إذا كانت مورغان أورتاغوس أو مدير الاستخبارات المصريّة اللواء حسن رشاد قد نقلا تهديدات إسرائيليّة جديدة، أجاب: “لا يحتاج الإسرائيليّون إلى تهديدات. إنّهم يضربون كلّ يوم”. تعتقد أوساط عربيّة أنّ الإكثار من حديث الحرب في إسرائيل ولبنان له وظيفة داخليّة.
يجهد أركان الحكم للاحتفاظ بهامش من المناورة يجنّب البلد الانفلات الإسرائيليّ مجدّداً، تمهيداً لإنضاج ظروف استكمال تطبيق حصريّة السلاح في يد الدولة. نتجت تفاعلات إيجابيّة عن إبداء رئيس الجمهوريّة العماد جوزف عون استعداده للتفاوض مع إسرائيل على القضايا العالقة. ركّزت الموفدة الأميركيّة مورغان أورتاغوس على هذا الخيار، وبدت أكثر تفهّماً للتعقيدات المرتبطة بسحب سلاح “الحزب”، من دون أن يلغي ذلك إلحاحها على أنّ إسرائيل وواشنطن لن تنتظرا طويلاً.
المتابعون للمخاطر على لبنان، الذين يستبعدون حرباً إسرائيليّة جديدة بسبب رفض “الحزب” تسليم سلاحه، لم يُسقِطوا من حساباتهم مواصلة بنيامين نتنياهو الضربات التي ينفّذها جيشه وتصعيدها، لكن تبقى دون سقف الحرب.
اهتمام أورتاغوس بصيغة التّفاوض يؤجّل الحرب؟
الحجّة الرئيسة لهؤلاء أنّ الحرص الأميركيّ على صمود اتّفاق وقف الحرب في غزّة يحول دون العودة إليها في لبنان، ولو في القريب المنظور. يتيح ذلك التحضير للتفاوض الذي أبدى الرئيس عون استعداده له. النافذة التي فتحها سعت أورتاغوس إلى استكشاف ترجمتها. اهتمّت بمعرفة التصوّر اللبناني لشكل ومضمون هذا التفاوض، لبلورته في الاتّصالات مع تل أبيب، أو في إطار لجنة “الميكانيزم”. اقترحت توسيع عملها ليشمل شمال الليطاني، ولمراقبة إجراءات وقف تهريب الأسلحة لـ”الحزب” من الحدود الشرقيّة الشماليّة مع سوريا.
تفهّم مصريّ وامتداح أميركيّ للجيش
الحجر الذي رماه الرئيس اللبنانيّ في المياه الراكدة دفع مصر إلى الدخول على الخطّ. إذ أبلغ اللواء رشاد المسؤولين اللبنانيّين أنّ القاهرة مستعدّة لدور في التفاوض، وهي تدرك الصعوبات التي يواجهها لبنان بتركيبته الداخليّة المعقّدة، وتشابك وضعه مع المعادلة الإقليميّة وموقف إيران.
تتفهّم وجهات عربيّة أخرى ميل لبنان إلى الحصول على ثمن من إسرائيل كبدء الانسحاب، مقابل خطواته لنزع السلاح، وتشجّع عليه.
يتيح الامتداح، الذي صدر عن لجنة “الميكانيزم”، لِما قام به الجيش جنوب الليطاني، للرئيس عون أن يتشدّد إزاء توغّلات إسرائيل، كما حصل حين طلب من الجيش التصدّي لها بعد حادثة بلدة بليدا. حين نسب البيان إلى أورتاغوس “ترحيبها بقرار الحكومة وضع جميع الأسلحة تحت سيطرة الدولة بحلول نهاية العام”، فهذا نوع من التسليم بأنّ سحب السلاح شماله متروك للعام المقبل، لأنّ خطّة الجيش تقضي بسحبه من جنوبه آخر العام.
إسرائيل لا تساعد فتخدم “الحزب”؟
تنقسم الغرف الدبلوماسيّة العربية والأجنبية بين انطباعين حول الحركة الدوليّة المعنيّة بلبنان:
1- الأوّل يرى أنّ إسرائيل لا تساعد في تقدّم الحلول، لجهة وقف القتل ولجهة انسحاب قوّاتها من مواقع الحافة الحدوديّة. بل تزيد توغّلاتها كما حصل في قرية بليدا فجر الخميس. بعض الدول يتعاطف مع لبنان في هذا الشأن. يخدم الانتهاك الإسرائيليّ لاتّفاق وقف الأعمال العدائيّة “الحزبَ” في أن يحتفظ بالسلاح لسبب إيرانيّ، لكن في استنهاض بيئته أيضاً.
2- الثاني يعتبر شرط “الحزب” انسحاب إسرائيل وربط نزع السلاح به ثمّ بإقرار الاستراتيجية الدفاعيّة، خارج المنطق وفق ميزان القوى الراهن. وهذا يستدرج عاجلاً أو آجلاً تصعيداً إسرائيليّاً وضربات تدميريّة. وهو ما يحتاج إليه نتنياهو في الداخل الإسرائيليّ وفي علاقته مع حلفائه في اليمين المتطرّف. لكنّ اضطرار السلطة السياسيّة إلى تجنّب الاحتكاك الأهليّ بـ”الحزب” أعاد المجتمع الدوليّ إلى القناعة بأنّ الحلول في البلد “راوح مكانك” حسب مصدر دبلوماسيّ أوروبيّ. هذا يكرّس معادلة “لا سحب للسلاح ولا إصلاحات يعني لا إعمار ولا مساعدات”.
يقول مصدر دبلوماسيّ عربيّ لـ”أساس” إنّ نجاح أورتاغوس أو الجانب المصريّ يتعلّق بالجواب على أكثر من سؤال: هل يُسحب سلاح “الحزب”؟ هل إسرائيل مستعدّة للانسحاب جنوب لبنان في وقت توسّع توغّلاتها واحتلالها فيه؟ هل يتمكّن الجيش من الانتشار حتّى الحدود الدوليّة؟
إسرائيل و”الحزب” والسّرديّة المتناقضة
تتحكّم التناقضات بمواقف الفريقين المتقابلين، إسرائيل و”الحزب”، بحيث يخدم كلّ منهما الآخر في الإبقاء على أرضيّة التصعيد العسكريّ:
1- من جهتها تكرّر إسرائيل مرّات عدّة ومتتالية قصفها بعنف لمواقع تدّعي أنّ “الحزب” يخزّن فيها أسلحة. تتجدّد أسماء مواقع تستهدفها بشكل يدفع للتساؤل: ألم تدمّر تلك الأسلحة التي تزعم أنّها مخزّنة في تلك المواقع بعد استهدافها ثلاث وأربع مرّات، مثل تلّة علي الطاهر في النبطية والجرمق الشقيف؟ هل تقصف للقصف فقط ولإبقاء جذوة التصعيد قائمة مهما كانت الحجّة؟
على الرغم من اعتداد نتنياهو بالمعلومات الاستخباريّة الدقيقة لجيشه، يطال القتل تحت ادّعاء اغتيال ناشطي “الحزب” مدنيّين عند زيارتهم قراهم لتفقّدها. هكذا تخلط الدولة العبريّة بين استهداف الكوادر وبين الإمعان في إذلال بيئة “الحزب” وإفقار بعضها بمنع الناس من زراعة أرضهم أو استعادة نشاطهم التجاري… لكنّ النتيجة عكسيّة فيتضامن الجنوبيّون مع تشدّد “الحزب” أكثر.
2- من جهته يقدّم “الحزب” خدمة مجانيّة لإسرائيل كي تواصل ضرباتها العسكريّة الانتقائيّة والعشوائيّة. قادة “الحزب” من أمينه العامّ الشيخ نعيم قاسم إلى نوّابه في البرلمان، لا ينفّكون يكرّرون القول إنّه استطاع ترميم هيكليّته بعد سلسلة الاغتيالات التي طالت قادته السياسيّين والعسكريّين، وإنّه بجهوزيّة تامّة لمواجهة الاعتداءات الإسرائيليّة. وهو أمر يخالف التزامهم اتّفاق وقف الأعمال العدائية والقرار 1701.
هذا على الرغم من أنّ عدم الردّ، سياسة صامدة، وبنصيحة إيرانيّة، كي لا يُتّهم “الحزب” بانتهاك اتّفاق وقف الأعمال العدائية. لكن ما دامت قيادة “الحزب” تدرك أنّ استخبارات إسرائيل ترصد بوسائلها التكنولوجيّة انتقال كوادره إلى الجنوب، فلماذا تسمح لهؤلاء بالذهاب نحو الموت المحتّم حتّى لو أنّ الحجّة هي تفقّدهم لقراهم وأطلال منازلهم؟ ما دام “الحزب” يؤكّد تعاونه مع الجيش في جمع السلاح، فلماذا التذرّع بإبقائه ورقة قوّة للبنان؟
هل سلّمت واشنطن بإبقاء السّلاح شمالاً للعام المقبل؟ .






