قبيل فتح صناديق الاقتراع استعدادًا للانتخابات البرلمانية العراقية، يبدو أن بعض القوى السياسية التقليدية في العراق، قرّرت خوض معركتها خارج الميدان الانتخابي. ليس في البرامج والخطط، بل عبر توجيه السهام السياسية نحو رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، الذي يبدو أنه يتحرّك بثقة في المشهد العام، بحسب ما تظهر الاستطلاعات، مراهنًا على ما أنجزه خلال ولايته الأولى.
منذ أسابيع، تتصاعد وتيرة الانتقادات التي يقودها تحالف «دولة القانون» بقيادة نوري المالكي، تجاه الحكومة الحالية. وقد وصلت هذه الحملة إلى حدود الضغط السياسي المباشر بهدف إحراج السوداني من أجل إخراجه من المشهد، قبل أن تبدأ جولة الانتخابات فعليًا، ومن دون أن يتضح ما الذي تغيّر لدى هؤلاء كي يصبح السوداني هدفًا بهذا الحجم؟ ولماذا الآن تحديدًا؟
السياق لا يحتاج إلى كثير من التأويل. شعبية السوداني تصاعدت في الشارع العراقي منذ بداية إطلاق تحالفه الانتخابي «الإعمار والتنمية»، مدفوعة بجملة من الإنجازات الملموسة وعلى رأسها استقطاب أكثر من 100 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية خلال فترة ولايته، وتوفير آلاف فرص العمل، مع ارتفاع إنتاج الكهرباء، إلى جانب ضبط نسبيّ في ملفات الفساد، واسترداد مليارات الدينارات… وهذا رصيد لم يُسجّل لحكومة عراقية ما بعد العام 2003.
ويبدو أن هذه النجاحات لم تمرّ على الخصوم بهدوء، إذ رأت فيها بعض القوى السياسية تهديدًا مباشرًا لموقعها التاريخي داخل التركيبة الشيعية، وفي قلبها تحالف المالكي الذي يطمح للعودة إلى الصدارة بعد الانتخابات المقبلة، ومن هنا جاءت محاولات استنزاف الحكومة، إعلاميًا وسياسيًا. آخر فصول تلك «التهديدات» ثمّ التصعيد ضدّ السوداني، تمثلت بملفين:
الأوّل، يوم اتهم المالكي، السوداني، من دون أن يسميه، بمحاولة التطبيع مع إسرائيل من خلال المشاركة بمؤتمر شرم الشيخ المنعقد لحلّ الصراع في قطاع غزة، واصفًا المشاركة بأنها خطوة لخلق الأجواء المناسبة للتطبيع، رافضًا مشاركة العراق في هذا المؤتمر، بل بأيّ مؤتمر آخر مشابه، وحتى لو كان من أجل البحث بحلّ الدولتين. يذكر أن السوداني اشترط لحضور قمة شرم الشيخ، عدم حضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ونقلت مصادر عراقية أن السوداني أبلغ الجانب المصري والأميركي بذلك. كما أكدت مصادر السوداني في حينه، أنه أبلغ الجانبين المصري والأميركي بأن العراق «سينسحب من القمة في حال شارك نتنياهو، وهو موقف عراقي حاسم».
أمّا الملف الثاني، فهو ما نشر قبل أشهر حول «فضيحة تنصّت»، إذ حاول تيار المالكي إعادة إحياء هذا الملف لاتهام أحد أعضاء طاقم السوداني الأمني بالتورّط فيها، ليُبنى على ذلك تسريبات مفادها أن المالكي يطالب باستقالة السوداني مقابل احتواء القضية. ورغم نفي الكثير من الجهات الرسمية العراقية صحة هذه الرواية وفتح تحقيقات برلمانية، إلّا أن توقيت إطلاقها كان لافتًا، ثمّ إعادة إحيائها بدت مرتبطة بتحوّلات المزاج الانتخابي لمصلحة السوداني نفسه.
يُواصل السوداني التقدّم في استطلاعات الرأي. وربّما هذا ما يفسّر حملة المالكي الحالية: هي ليست دفاعًا عن الديمقراطية ولا اعتراضًا على الأداء، بل محاولة لوقف زخم رجل استطاع أن يُحدث فرقًا في ملف الخدمات والبُنى التحتية ومكافحة الفساد، ما جعله محطّ إجماع داخلي ضمن أوساط واسعة من المواطنين، وخارجيًا في الدوائر العربية والدولية التي تعتبر السوداني «نقطة توازن» نادرة في المشهد العراقي المتقلّب.
اللافت، أن خطاب السوداني لم ينزلق إلى الردّ الشخصي على هذه الحملات، بل حافظ على لهجة وطنية، مركّزًا في مهرجاناته الانتخابية على دعوة الناس إلى اختيار «الشخصيات الكفوءة والنزيهة»، وعلى أن هذه الانتخابات تمثل «معركة بين مشاريع الفساد ومشروع الدولة»، وهو خطاب يراهن على الوعي الشعبي بدل السجال السياسي.
وفي المحافظات الجنوبية، وعلى رأسها البصرة، تبدو المؤشرات أكثر وضوحًا: كثافة حضور السوداني في المشهد الانتخابي، وتنامي التأييد لقائمته، وحالة الالتفاف حول برنامجه التنموي، كلّها معطيات تربك خصومه وتدفع بعضهم إلى التصعيد كوسيلة وحيدة لإيقاف تقدّمه.
هل تنجح تلك الاستهدافات؟ حتى الآن، يبدو أن مفاعيلها محدودة. لا الشارع تفاعل معها كما خُطّط، ولا القوى الدولية غيّرت موقفها الإيجابي من السوداني، الذي يُعتبر في نظر كثير من العواصم «حجر زاوية» في الحفاظ على استقرار العراق، بل وتمرير الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي.
الملف الأهمّ هنا، أن هذه الحملة وإن كانت تؤشر إلى حجم الصراع داخل البيت الشيعي، فإنها تكشف أيضًا تحوّلًا في وعي الناخب العراقي. فمنظومة التحريض السياسي التي كانت قادرة في السابق على حشد الجمهور بدأت تفقد مفعولها، أمام نجاعة الخطاب الذي يُراهن على «النتائج» لا على «الخطابات».
لهذا، فإن الطريق نحو ولاية السوداني الثانية، وإن كان محفوفًا بالألغام السياسية، لا يبدو مسدودًا. فالسوداني لم يدخل اللعبة بلا أوراق: أنجز ما عجز عنه أسلافه، بنى تحالفًا انتخابيًا عابرًا للولاءات واستعاد ثقة جزء كبير من العراقيين الذين كانوا يشكّكون بجدوى المشاركة السياسية.
هل تنجح «الحروب السياسية» بوقف تقدّم السوداني؟ .





