قضية صخرة الروشة كشفت عن حقيقة الصراع العميق في لبنان: دولة ناشئة تحاول أن تفرض سيادتها في مواجهة منظومة قديمة يقودها نبيه بري، تحولت إلى دولة داخل الدولة. كل ذلك جرى استخدامه لإسقاط قرار حكومي شرعي وإظهار السلطة التنفيذية كأنها عاجزة.
لم تكن قضية صخرة الروشة مجرد إضاءة ليزر على صخرة أو رفع صورة في قلب بيروت. المسألة أبعد وأعمق بكثير. ما جرى هناك كان منازلة بين منطق الدولة ومنطق الدويلة، بين حكومة شرعية تحاول فرض قراراتها، ومنظومة قديمة يقودها نبيه بري أرادت أن تظهر أن الدولة عاجزة وأن الكلمة الفصل تبقى لها. على هذه الصخرة بالتحديد، سقط القناع، لم يعُد النقاش حول مشهدية رمزية، بل حول سؤال جوهري، هل ستعود الدولة حاكمة، أم ستبقى محكومة من منظومة وميليشيات؟
الفخ على الصخرة
القصة بدأت بقرار واضح أصدره رئيس الحكومة نواف سلام، تحييد المعالم الوطنية عن الصراعات السياسية ومنع استخدامها لأغراض حزبية. قرار طبيعي ومنطقي يتكامل مع القوانين اللبنانية والدستور، ويهدف إلى حماية الرموز الوطنية من الاستغلال. لكن سرعان ما تبيّن أن هذه القضية ليست بهذه البساطة.
المعطيات أظهرت أن نبيه بري قاد سلسلة اتصالات انتهت إلى تسوية مبدئية، السماح لمؤيدي “حزب الله” بإحياء ذكرى اغتيال حسن نصرالله بصورة رمزية في محيط الروشة، لكن من دون استخدام الصخرة نفسها كمعلم وطني، إلا أن هذا التفاهم سرعان ما انقلب. فجأة، حضرت شاحنات محملة بأجهزة ليزر ضخمة، وبدأت التحضيرات لإضاءة الصخرة. الأجهزة الأمنية لم تتحرك والوزارات المعنية مثل الدفاع والداخلية صمتت والمؤسسات الرسمية بقيت تتفرج. وقبل ساعات من التنفيذ، خرج رئيس وحدة الارتباط والتنسيق في “حزب الله” ليؤكد أن الصخرة ستضاء بالفعل، وكأن القرار الحكومي لم يكُن موجوداً أصلاً.
هنا تبيّن أن هناك قراراً “فوق رسمي” اتخذ بغض النظر عن إرادة الدولة، وأن ما جرى لم يكن نتيجة تقصير بل نتيجة تواطؤ وصمت مقصود. لقد أراد نبيه بري أن يسقط رئيس الحكومة عن صخرة الروشة وأن يظهره عاجزاً أمام الناس، في مشهدية مدروسة تشبه “السقطة المميتة”.
عهد جديد “يصارع” منظومة قديمة
المواجهة لم تكن حول إضاءة صخرة فقط، بل حول مستقبل لبنان السياسي. فرئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام جاءا من خارج نادي المنظومة التي حكمت البلاد 40 عاماً. وهما يمثلان محاولة لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، مساءلة الفاسدين وإعادة الاعتبار للمؤسسات ووقف شبكات المحاصصة.
لكن في المقابل يقف نبيه بري، ممسكاً بخيوط المنظومة القديمة، مدعوماً بتحالفاته التاريخية مع “حزب الله” ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية وسعد الحريري وشركاء آخرين. هذه “الشجرة السياسية” التي يقودها بري لا تريد أن تفقد سيطرتها، ولا تريد للدولة أن تسائلها، من أين جاءت الثروات؟ لماذا عُيّن الأزلام في الإدارات؟ وكيف نهبت أموال الناس؟
“المنظومة” لا تريد دولة حاكمة، بل دولة محكومة. لا تريد مؤسسات مساءلة، بل مؤسسات مسيّرة. لذلك، كان لا بد من فخ الروشة ليقال إن الدولة عاجزة منذ اللحظة الأولى، وخنقها في البحر تحت مياه بيروت وعلى مرأى من “الممانعين” الشامتين بالدولة.
الوجه الآخر للسلاح
من المحسوم ومن الخطأ اختزال نبيه بري في صفته السياسية، الحقيقة أنه، مثل “حزب الله”، يمتلك ميليشيات خاصة. حركة “أمل” التي يقودها لا تزال تحتفظ بمئات المسلحين، وظهرت هذه القوة خلال استعراضات عدة في الشوارع والمناطق اللبنانية. وسقط لها قتلى في “حرب الإسناد” إلى جانب “حزب الله” ضد إسرائيل ولديها ترسانة كبيرة من الأسلحة.
إضافة إلى ذلك، هناك “شرطة مجلس النواب”. من المفترض أن تكون هذه الشرطة جزءاً من قوى الأمن الداخلي، لكنها في الواقع تخضع مباشرة لبري. وتحولت إلى ميليشيات شرعية بغطاء رسمي. فهذه القوة شاركت في قمع متظاهري “انتفاضة تشرين” عام 2019 وفي الاعتداء على أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، وفق ما وثقته منظمات حقوقية دولية مثل “أمنستي”. والجميع يعلم أن ولاء هذه الشرطة ليس للدولة ولا لوزارة الداخلية، بل لرئيس البرلمان شخصياً.
بهذا المعنى، نبيه بري ليس فقط رأس منظومة الفساد والمحاصصة، بل أيضاً قائد ميليشيات فعلية، تشارك في تفتيت القرار الوطني وتشرذم السيادة.
إسقاط الحكومة
ما جرى عند الروشة كان جزءاً من خطة أوسع، إضعاف العهد الجديد منذ بداياته. بري لم ينسَ أن نواف سلام وصل إلى رئاسة الحكومة بتوازنات دقيقة، خارج الحسابات التي كان يعد لها. فهو كان يفضل عودة نجيب ميقاتي وتشكيل حكومة أكثر ولاءً للمنظومة، لذلك بقيت العلاقة بين بري وسلام باردة. فجاءت حادثة الروشة لتكون الفخ السياسي، مكيدة هدفها إضعاف سلام أو حتى إسقاطه.
لكن الرد لم يكُن كما توقع بري. الرئيسان جوزاف عون ونواف سلام أظهرا تماسكاً، وعقد سلام لقاءً تشاورياً، وأصر على المضي بالتحقيقات القضائية. وطلب من القضاء أن يتحرك سريعاً خلال أسبوع لمحاسبة كل من خالف القرار الحكومي أو تقاعس عن تطبيقه، بما في ذلك المؤسسات الأمنية. وإذا تمكن القضاء من إصدار مذكرات توقيف بحق المسؤولين عن هذا الخلل، فإن النتيجة ستكون عكس ما خطط له بري، سقوط المنظومة على صخرة الروشة، لا سقوط الدولة.
عون يعيد الثقة
في خضم معركة الروشة، لا يمكن إغفال الدور الذي يقوم به رئيس الجمهورية الذي بدا واضحاً أنه لا يريد أن يكون شاهد زور على انهيار الدولة، بل مؤسساً لمرحلة جديدة. منذ انتخابه، أطلق عون سلسلة خطوات هدفها تكريس منطق الدولة الواحدة، بما فيها دعمه لقرارات الحكومة التي تصطدم مباشرة بالمنظومة العتيقة.
لكن الأهم أن عون خرج إلى العالم ليعيد نسج شبكة العلاقات التي خرّبها “حزب الله” بسياساته وصراعاته. فخلال مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أجرى لقاءات لافتة مع عدد من القادة والمسؤولين الدوليين حملت رسالة واضحة، لبنان يريد أن يعود دولة طبيعية، لا رهينة ميليشيات ولا أداة في حروب الآخرين. وكلامه عن التزام لبنان القرارات الدولية ورغبته في إعادة الثقة المفقودة، شكل مؤشراً على أن العهد الجديد لا يكتفي بالدفاع في الداخل، بل يسعى إلى فتح نافذة دعم خارجي تعيد للبنان مكانته وتمنحه فرصة إنقاذ حقيقية.
دويلتان: وجهان لعملة واحدة
والحقيقة أن لبنان يعيش في ظل دويلتين متحالفتين تشكلان “الدولة العميقة”:
دويلة المحاصصة والفساد بقيادة نبيه بري التي تسيطر على المؤسسات وتوزع المناصب كغنائم.
ودويلة الميليشيات والسلاح بقيادة “حزب الله” التي تفرض إرادتها بالقوة وتحمي المنظومة سياسياً.
هاتان الـ”دويلتان” وجهان لعملة واحدة، تنهشان جسد الدولة الرئيس وتمنعان أي إصلاح أو تغيير. ولا يمكن لأي رئيس أو حكومة أن تنجح من دون مواجهة هاتين القوتين معاً بضربات قاسية وقاطعة.
لا دولة مع بري
نبيه بري لا يستطيع أن يكون شريكاً في إصلاح سياسي أو اقتصادي أو إداري، فهو نقيض فكرة الدولة. هو رأس المنظومة التي عطلت كل إصلاح، وهو قائد ميليشيات تشارك في شرذمة القرار الوطني. وأراد أن يسقط نواف سلام عن صخرة الروشة، لكن ما انكشف هو دوره كعراب الدويلة وخصم الدولة.
اليوم، على اللبنانيين أن يختاروا، دولة حاكمة تفرض سيادتها، أم دويلة تحكم وتستمر في استغلال الناس ونهب أموالهم؟ صخرة الروشة لم تكن مجرد مشهدية عابرة، بل كانت اختباراً وفرصة. اختبار كشف عن وجوه المنظومة، وفرصة للدولة كي تثبت أنها حاكمة لا محكومة.
وإما أن تحاسب الدولة وتفرض القانون، أو يبقى الوطن رهينة صفقات قديمة ولصوصية جديدة. الخيار واضح، دولة أو دويلة. والوقت لا يرحم.





