عرف الوفد كيف يقسّم نفسه بين المواقع الرسمية والسياسية والحزبية التي زارها وحمل ملفات دقيقة تحاكي آلية نقل الأموال في سرّية تامة. وعليه كانت العناوين السياسية في لقاء الوفد مع عون والتفاصيل التقنية في اللقاءات الأخرى.
شكّل الطريق الذي سلكه الوفد الأميركي المشترك، الذي جمع مسؤولين في البيت الأبيض والأمن القومي ووزارة الخزانة، المكلّفين متابعة قضايا تمويل الإرهاب والجرائم المالية لتجفيف موارد المنظمات الإرهابية من أنقرة إلى بيروت وأبو ظبي فتل أبيب، الخريطة التي يعتمدها مُهرِّبو الأموال إلى بعض العواصم ومنها تلك التي تصل إلى “حزب الله”. وجاءت الانطلاقة من أنقرة، التي شكّلت أولى محطات التهريب التي اكتُشِفت في اتجاه بيروت. وعلى هذه الخلفية يمكن فهم ما أراده الوفد من بيروت. وهذه عيّنة منها.
قبل الدخول في أي جانب من الجوانب التي يمكن أن تُعبِّر عنها الجولة الاستثنائية للوفد الأميركي في شكله ومستواه وحجمه، ينبغي التوقف عند جملة من الملاحظات، نظراً إلى ما جمعه الوفد من مسؤولين في مؤسسات تُشكّل رأس حربة في الاستراتيجية الأميركية الدولية لمواجهة تهريب الأموال وتبييضها، خصوصاً في الشرق الأوسط. وهم من مواقع تحوط بالملفات المطروحة بطريقة متماسكة ودقيقة جداً. وهو أمر تمّ التوصّل إليه لمجرّد أن يكون الوفد برئاسة نائب مساعد الرئيس الأميركي لشؤون مكافحة الإرهاب الدكتور سيباستيان غوركا، وهو الذي قيل عنه عند تعيينه في موقعه الحساس والدقيق الحالي، إنّه “الرجل المعادي للإسلام الذي يعود إلى البيت الأبيض”، وهي صفة إضافية لازمته كـ”مدير أول في مكافحة الإرهاب”، والتي أُلحقت بموقعه الرسمي كـ”نائب لمساعد الرئيس الأميركي لشؤون مكافحة الإرهاب”.
وإلى هذه الملاحظة، التي تتصل بحجم رئيس الوفد ومسؤوليّته، والتي لا يمكن تجاهلها، وخصوصاً أنّها وضعته على لائحة كثر من مثيري الجدل، ينبغي على المتتبّعين أن يتعرّفوا إلى بقية أعضاء الوفد، وهم جميعاً من الصف الأول والرؤوس الكبيرة في وزارة الخزانة الأميركية ومجلس الأمن القومي، بدءاً بوكيل الوزارة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية جون هيرلي، ورئيس هيئة الأركان في الاستخبارات الإرهابية والمالية بيل باريت، ونائب مساعد وزير شؤون الإرهاب والاستخبارات المالية سبينسر هورويتز، ومستشار وكيل الوزارة مايكل رومايس، ومدير شؤون الشرق الأوسط في مكتب تمويل الإرهاب والجرائم المالية (TFFC) دانيال جاكسون، ومديرة مكافحة الإرهاب والتهديدات في مجلس الأمن القومي (مكتب مدير الاستخبارات الوطنية) نانسي دحدوح، ومدير تمويل التهديدات في مجلس الأمن القومي ماكس فان أميرونغن، والمساعد الخاص للرئيس ونائب مدير مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي رودي عطالله.
وفي المختصر المفيد، يمكن القول، بحسب ما يعتبر مسؤولون يتابعون عمل هذا الفريق الكبير، إنّ كل عضو من أعضاء الوفد له مهمّة تُكمِل مهمّة الآخر، توصّلاً إلى مراقبة ورصد حركة الأموال المحظورة والآلية المعتمدة لنقلها من مصادرها إلى المستفيدين منها بطرق أقل ما يُقال فيها إنّها احتيالية، مستغلّة التطوّر في مجالات التمويل وتمويه الاستثمارات التجارية غير الشرعية، والتي لا مبرّر مادياً أو مالياً لها، ولا سيما منها تلك التي تستهدف تغذية المجموعات الإرهابية في أكثر من بقعة في العالم، والسعي إلى قطع هذه الخطوط بهدف تجفيف مواردهم المالية ومعاقبة الذين سخّروا أنفسهم بهويات وجنسيات واختصاصات مختلفة ومتنوّعة عبر مؤسسات وشركات مالية عابرة للقنوات المصرفية الدولية الشرعية المراقبة، وتتحاشى العمل وفق القوانين والمواثيق الدولية التي سمحت بتوفير التغطية الموقتة لنقل الأموال بأمان بين مصادرها وأهدافها غير المشروعة، قبل اكتشاف البعض منها بعد فوات الأوان.
وبناءً على ما تقدّم، توقفت المراجع المالية والمصرفية أمام ما مهّد له رئيس الوفد، بالإشارة إلى مهمّته، عندما كشف من محطته الأولى في أنقرة عن الظروف التي فرضت توقيت الزيارة لبيروت، متحدّثاً عن “فرصة سانحة” في لبنان تستطيع فيها قطع التمويل الإيراني عن “حزب الله” والضغط عليه لإلقاء سلاحه. بعدما كشف “أنّ إيران تمكّنت من تحويل نحو مليار دولار إلى “حزب الله” هذه السنة، على رغم من مجموعة العقوبات الأميركية والغربية التي أضرّت باقتصادها. مكرّراً التأكيد، أنّ من الضروري زيادة الضغط على إيران، وأنّ “المفتاح في ذلك هو التخلّص من النفوذ والسيطرة الإيرانية التي تبدأ بالأموال التي يضخّونها لحزب الله”.
وفي المقابل، وعندما كان الحديث سياسياً بامتياز في بعبدا، كان رئيس الجمهورية واضحاً في ردّه على طروحات الوفد، التي لم تخرج عن إطار المهمّة الصريحة والواضحة المكلّفين إياها سلفاً، فأكّد أنّ “لبنان يُطبّق بصرامة إجراءات منع تبييض الأموال أو تهريبها أو استعمالها في مجال تمويل الإرهاب”. مطالباً بالضغط على إسرائيل لوقف اعتداءاتها المستمرة على لبنان، وإلزامها بتطبيق القرار 1701 والاتفاق الذي تمّ التوصّل إليه العام الماضي”، مؤكّداً “أنّ خيار التفاوض الذي يلقى دعم الولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى، يحتاج إلى مناخات ملائمة، أبرزها وقف الأعمال العدائية وتحقيق الاستقرار في الجنوب”. ومشدّداً على أنّ “الجيش يعمل والأجهزة الأمنية على ملاحقة الخلايا الإرهابية وإحالة أفرادها إلى القضاء وإحباط أي محاولة لزعزعة الأمن والاستقرار في المناطق اللبنانية كافة”.
أمّا الوفد الأميركي، وبعد تقديم عرض مفصّل عن الظروف التي حكمت جولته في “المنطقة المتفجّرة”، فأكّد “الاستعداد لمساعدة لبنان لتحقيق الأمن والاستقرار في الجنوب ودعم الجيش وإلغاء المظاهر المسلّحة وتمكين القوى الأمنية الشرعية من القيام بدورها”، معتبراً أنّ كل هذا رهن تجاوب الدولة مع ما هو مطلوب منها دولياً.
أمّا في اللقاءات الأخرى مع كل من رئيس الحكومة والوزراء والسياسيِّين، وبعدما توزّع الوفد في جولاته منقسماً على نفسه بين ممثلي الأمن القومي ووزارة الخزانة بحسب الشخصيات والوزراء الذين التقوا بهم، فقد توسع الحديث إلى كثير من التفاصيل القضائية والإدارية والمالية والتقنية والقانونية، للوصول إلى مرحلة الحؤول دون إتمام العمليات المالية غير القانونية التي تُستخدم فيها الأموال “الكاش” المشكوك دائماً بمصدرها. عدا عمّا كشفه من معلومات تتصل برصد محاولات لاستخدام العملات الرقمية متى استطاع أصحابها النفاذ من قنوات الرقابة، وهي عملية ممكنة في ظلّ الفلتان العالمي الذي يمكن استغلاله من بوابات مالية دولية ومن عواصم عدة، عبر مؤسسات مالية عابرة للقارات، وتستخدم قنوات شرعية وغير شرعية، بفعل تنوّع مهامها المالية والتجارية ومن هويات مختلفة، أغرتها العمولات الخيالية التي كانت تتقاضاها، كما انتهت إليه التحقيقات في بعض دول أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، بطريقة أثارت الشكوك في قدرة هذه المنظمات على تجنيد ما جنّدته لهذه الغاية.
وإلى هذه المعطيات، لم ينسَ بعض أعضاء الوفد أن يُثير عمل مؤسسة “القرض الحسن” ومؤسسات أخرى، مغلّفة بعناوين إنسانية واجتماعية والشهداء، بهدف إمرار الأموال عبر أنظمة الضرائب المعفاة من الرسوم، كما في بعض الدول المتقدّمة التي تسمح بالتبرّعات ونقل الأموال بلا رقابة وربما بلا ضرائب ورسوم، لما هو متوافر من إعفاءات تطاول البعض منها، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، حيث اكتُشِف أنّ هذه الأموال وصلت إلى غير المستهدفين منها شرعياً.
وختاماً، كان تشديد الوفد على “أنّ المساعدات المالية وإعادة الإعمار وتعويم المؤسسات المحتاجة بما فيها العسكرية والأمنية، مرهونة بالإصلاحات المطلوبة ومصير السلاح غير الشرعي وتجفيف مالية “حزب الله” والميليشيات الأخرى، ومنها التخلّي عن “مشاريع الدويلة من ضمن الدولة”، على حدّ قول أحد أعضاء الوفد.
ما يريده وفد الخزانة الأميركية والامن القومي من لبنان؟ .




